+ A
A -
في عام 2015 تعرفت في القاهرة إلى شاب سوري جاء إلى مصر هربا من الخدمة العسكرية، شأن كثير من الشبان السوريين الذين رفضوا المشاركة في المحرقة السورية بمحض إرادتهم، فكان الهروب من سوريا هو الحل لمن لم يكن يستطيع دفع بدل نقدي بقصد الإعفاء من الخدمة العسكرية، ذلك الشاب كان شابا عاديا جدا، يعيش على ما يرسله له والده من داخل سوريا، فنصحه أحد الأصدقاء بتعلم أية حرفة مفيدة يقضي بتعلمها الوقت ريثما تحصل المعجزة.
وبالفعل، التحق الشاب بورشة عمل لتعلم فن صناعة المصوغات لدى واحدة من أهم مدارس تعليم هذا الفن في مصر، ولم يقض في الورشة سوى شهر واحد، عاد بعدها إلى سوريا، حيث استطاع والده تأمين مبلغ البدل المطلوب وتم إعفاؤه من الخدمة العسكرية، وانقطعت أخبار الشاب لمدة طويلة عن معارفه في مصر، حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أن صفحة الفيسبوك خاصته بقيت موجودة يدخلها بين فينة وأخرى، حتى بدأ ينشر على صفحته روابط لمقابلات أجريت معه على القنوات السورية في داخل سوريا، بوصفه خبير مجوهرات ومبدعا استثنائيا في تصميم الحلي والمجوهرات، وصاحب أول مدرسة سورية لتعليم هذه المهنة الجميلة، إذ عرفنا أنه افتتح مدرسة في سوريا بعد عودته اعتمادا على الشهادة التي حصل عليها من الورشة المصرية لمدة شهر واحد فقط.
استوقفني أمر هذا الشاب فعلا، فمن جهة أعجبت بإصراره على إكمال الطريق الذي بدأ فيه خطواته الأولى في مصر، بعد عودته إلى سوريا، إذ ليس من السهل في ظل الظرف السوري الممتد منذ سنوات أن يعرف الإنسان ماذا يفعل، أو ماذ يريد أن يفعل تحت وقع الحرب والدمار والموت والانهيار الاقتصادي والاجتماعي العام الذي تعمم على سوريا كلها دون استثناء، فأن يجد الشاب طريقا خاصا به وسط ذلك، بحيث يستطيع فصل حياته عما يحدث، ليبدأ من الصفر، ليس بالأمر السهل أبدا، ويحتاج إلى عزيمة وتصميم وقوة إرادة يبدو أن ذلك الشاب كان يتمتع بها حتى استطاع إثبات وجوده بعد وقت قليل من عودته إلى سوريا، ومن جهة ثانية، وبعد أن شاهدت ما عرضه من (أعماله) على صفحته في الفيسبوك وفي بعض المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه، ورأيت كم هي متواضعة وعادية، ويحاول فيها أن يقلد تصاميم المدرسة التي تعلم بها، دون أن يكون له أية بصمة خاصة به تميزه هو شخصيا، شعرت بالأسف لحالنا نحن السوريين في كل مكان، إذ يبدو أن زمن الحرب والخراب هو زمن أصحاب أنصاف المواهب، حيث تفقد المعايير الفنية والجمالية قيمتها، أو تختفي هذه القيم تماما لصالح الادعاء وانعدام الموهبة الحقيقية، واقتناص الفرص للظهور والبروز بأدوات شخصية شحيحة ولا تكفي للتمييز، في الوقت الذي يتم فيه تغيبب عشرات آلاف المواهب سواء بالموت أو بالإخفاء القسري أو بالتهجير، إذ لا يمكن لأحد أن يحصي أو يتكهن بكم المبدعين الذين تم إخفاء وجودهم في هذه الحرب المجنونة التي طحنت كل ما يمت للحضارة والإبداع في سوريا بصلة.
لا يقتصر الأمر على هذا الشاب، ولا يقتصر أيضا على الداخل السوري، إذ تمتلئ بلاد المهجر السوري حاليا بمدعي الإبداع من أنصاف المواهب في كل المجالات، هؤلاء الذين يلقون كل الترحاب والتهليل والتسهيلات الممكنة للظهور والحضور على ساحة الإبداع لمجرد أنهم سوريون لاجئون وناجون من الحرب، هكذا نسمع يوميا بأسماء في كل أنواع الفنون والأدب، تخترع تاريخا لها في الإبداع رغم أنها لم تكن موجودة سابقا، ومشروعيتها الحالية كلها تأتي من كونها تستخدم القضية السورية والحرب ومظلومية التهجير لتروج لما تفعل، وتجد لدى منظمات المجتمع المدني في الدول التي لجأت إليها الجهوزية الكاملة لاستقبالها والترويج لها بوصف ما يقدم هو الفن والإبداع السوري، بينما ثمة مبدعون حقيقيون لا أحد يهتم بهم، ولا يكترثون هم أصلا بالبروز، ولا يقبلون التمييز بالاتكاء على الدم السوري وقضيته العظيمة!
ولكن هل يدوم هذا طويلا؟! هل نكون متفائلين ونقول إن أنصاف المواهب سوف تندثر مع اندثار الحرب وآثارها؟! المنطق يقول إن هذا ما يجب أن يحدث ذات يوم، لكن الحياة قد يكون لها منطق آخر، إذ ليس من السهل التخلص مما تفرزه الحروب المجنونة، سوف تبقى تلك الآثار طويلا طالما تلقى من يروج لها بوصفها إبداعا وتميزا، إذ أن موهبة الخراب والموت التي يتمتع بها السياسيون وتجار الحروب يلزمها مسار مشابه في تخريب الذوق الفني على مستوى الفنون والإبداع، ولا ينجو من هذا المسار سوى الحقيقيين الذين يرون ما يحدث ويصمتون خوفا على أنفسهم. ?
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
14/01/2020
1975