+ A
A -
يكاد ينقضي شـهر «أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار». وفي شـهر رمـضان المبارك نفـتـقد أموراً كثيرة، ونفـتـقد رجالاً رحلوا، منهـم الشـيخ علي الطنطاوي غفر الـلـه له ورحمه رحمة واسعـة، ونفتقد إطلالته وأحاديثه القيمة المليئة علماً ولغة. والشـيخ الطنطاوي «حزيـراني» بامتياز، فقد ولد في 12– 6 عام 1909 وتوفاه الـلـه في 18– 6 عام 1999.
جمع الشـيخ الطنطاوي في دراسته بين التلقي من الشـيوخ والدراسة في المدارس النظامية، نال الـثانوية سـنة 1928م، وذهـب إلى مصر ودخل دار العلـوم العليا، ولكنه لم يتم السـنة الأولى وعاد إلى دمشـق، فدرس الحقوق في جامعتها إلى أن تخرج سـنة 1933م، وعمل في التعلـيـم والصحافـة طويلاً، حتى ألـقى عام 1940 خطـبة جمعـة نارية سـخر فيها من الفرنسـيين الذي ذاقوا الاحتلال، فمنعوه من التدريس، فدخل سـلك القضاء ليمضي فيه 25 عاماً من أخـصب أعـوام حياتـه، ثم هاجـر إلى السـعـودية فأمضى 35 عـامـاً بين الرياض ومكة المكرمة وجـدّة حتى وفاته. كانت هذه السـنوات حافلة بالعطاء الفكري، ولا سـيما في برامجه الإذاعية والتليفزيونية التي استقطبت ملايين المستمعين والمشاهدين، فقد جمع في أحاديثه بين العلم الغزير واللغة الرشيقة المطعمة بالعامية أحياناً، وخفة الدم التي اشتهر بها، وكان باختصار كأنه صديق يجلس معك ويحدثك، بعيداً عن لغة الوعظ والخطابة.
ترك الإذاعة والتليفزيون حينمـا بلغ الثمانين، وتوقف عن سـرد ذكرياته «لقد عزمتُ على أن أطوي أوراقي، وأمسـح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعـيشـها منذ سـنين» واعتزل الناس إلا قـلـيلاً من المقربيـن الزائريـن، في ما يشـبه منتدى أدبـياً وعلمـياً تُبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ.
ترك علي الطنطاوي سوريا بعدما ضاقت عليه الحياة فيها، فبقي قلبه فياضاً بالحنين إليها. وكتب في ذلك درراً أدبية (ونختصر):
«وأخيراً أيها المحسـن المجهول، لم يبـق لي عـندك إلا أن تكمل معروفك، وتصلي الـفجـر في «جامع التوبة» ثم توجه شـمالاً حتى تجد زقـاقـاً ضيـقـاً جداً، فسـترى عن يمـينك جدولاً عـميقاً على جانبـيه الورود والزهـر، اجعلها عن يميـنك وامش في مدينـة الأمـوات، وارع حرمة القبور فستدخل أجسادنا مثلها.
دع البحرة الواسـعة والشـجرة الضخـمة ممتـدة الفروع، سـر إلى الأمام فسـترى قبـرين من الطين أحدهـما قـبر جدي أحمد الطنطاوي، وفـيه دفن أبي، وقبر أمي فأقرئهما مني السلام، واسـأل الـلـه الـذي جـمعهما في الحياة وفي المقـبرة، أن يجمعهـما في الجنة، رب اغـفر لي ولوالدي، رب ارحم ابنتي واغفر لها (قتلت في آخن الألمانية)، رب وللمسلمين والمسلمات».

بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
27/06/2016
1171