+ A
A -
أوالي حديثي إلى تلك الصديقة المفترضة. لغتنا يا سيدتي لغة الحركات. لم يكن العرب يعرفون النقاط والحركات (التشكيل) ثم بدأت لغة العرب تفسد نتيجة اختلاط العرب بالشعوب الأخرى، وأفزع هذا أبا الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني (16 ق.هـ/69 هـ)، من ساداتِ التابعين وأعيانِهم وفقهائهم وشعرائهم ومحدِّثيهم، وهو كذلك عالم نحوي وأول واضع لعلم النحو في اللغة العربية، وشكّل أحرف المصحف، وضع النقاط على الأحرف العربية، فهو معدود في طبقات التابعين، ويُلقب بِلقب ملك النحو لوضعه علم النحو، فهو أول من ضبط قواعد النحو، فوضع باب الفاعل، المفعول به، المضاف وحروف النصب والرفع والجر والجزم، وكانت مساهماته في تأسيس النحو الأساس الذي تكوَّن منه لاحقاً المذهب البصري في النحو. وقد وصفه الذهبي في ترجمته له في كتابه «سير أعلام النبلاء» بقوله: «كان من وجوه شيعة علي، ومن أكملهم عقلاً ورأيًا، وكان معدودًا في الفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والأشراف، والفرسان، والأمراء، والدهاة، والنحاة، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصُلع». هلع أبو الأسود لما لحنت ابنته، إذ قالت له: ما أجملُ (بضم اللام) السماء يا أبتي؟ فقال: نجومها، فقالت: إنما أردت التعجب، فقال: قولي إذن ما أجملَ (بفتح اللام) السماء، لكنه هلع أكثر حين تعمد أحدهم أن يقرأ على مسمع منه «أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه» (بكسر اللام) وهي الآية 3 من سورة التوبة (وَأَذَانٌ منَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولـُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) فوضع علم النحو، وكان يضع النقط بلون أحمر لتبيان الحركة، ثم أكمل تلاميذه المهمة بأن جعلوا النقاط للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم (الجيم والحاء والخاء مثلاً) ووضعوا الحركات المعروفة (الكسرة والضمة والفتحة والسكون لتبيان حركة الحرف).
سأضرب لك بعض الأمثلة يا سيدتي، ولنأخذ الجذر «قدر». إن له الترجمات التالية في لغتك الإنجليزية:
Amount* measure* *quantity* deal * lot* degree*saucepan *volume
Proportion* **magnitude*number*predestination*size *belly-band *estimate value **appreciate treasure *prize *assess * evaluate * appraise* * can *rate *cost *consider *think *assume *presume
*afford *esteem *be capable of *predestine *predetermine *guess
*suppose *count *manage to إنها ست وثلاثون كلمة ما بين اسم وصفة وفعل، بينما يكفي أن أغير الحركات فوق الأحرف أو تحتها في الجذر «قدر» في اللغة العربية، لأحصل على هذه الكلمات كلها
أول اشتقاقات هذا الجذر «قدر» بثلاث فتحات، وتعني ظن أو حسِب، قال المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هُمُ
فإذا سكنت الدال «قدْر» مقدار الشيء وحالاته المقدرة له، وفي القرآن الكريم سورة «القدْر» وأبقي السكون على الدال ولكنني أضع تحت الكاف كسرة «قِدْر» فيصير المعنى الآنية التي يطبخ فيها، والقدر (بثلاث فتحات) ما قدره الله على الإنسان، ونتحدث عن القضاء والقدر، والجمع هنا أقدار، وأبقي الفتحات ولكنني أشدد الدال «قـدَّر» وهذه تعني أموراً أخرى، نقول مثلاً «قدّر الله وما شاء فعل» وتعني أيضاً أنه حسب قيمة الشيء أو حجمه أو عدده، فنقول مثلاً: وقدّر الرجال بثلاثين رجلاً، ونقول أيضاً: قدّره حق قدْره، أي أظهر له الاحترام، فإذا أضفت التاء المربوطة إلى الكلمة، فإنني أجد كلمات أخرى كثيرة: القُدرة أي الاستطاعة، عدا عن المقدرة والقدير والقادر والمقدَّر والمقدور وغيرها.
آخذ جذراً آخر هو «عَرَف» بثلاث فتحات، ومن معانيه في الإنجليزية custom عادة، رسوم جمركية، جمرك، زبون، شيمة، ومن معانيه أيضاً tradition التقليد، تقليد، تراث، عرف، سنة، نواميس، أما في العربية فيكفي أن أغير الحركات فيصير الجذر «عُرْف» والجمع أعراف، وهي القوانين غير المكتوبة التي اتفق عليها الناس، ونتحدث كثيراً نحن العرب عن التقاليد والأعراف، ومن معانيه usage استعمال، عرف، عادة، طريقة إستعمال الألفاظ، ومنها convention وتعني اتفاقية، مؤتمر، معاهدة، ميثاق، عقد، عرف منها rule
حكم، قاعدة، سلطة، قانون، عهد، عرف، ومنها habit عادة، سلوك، عرف، طبع، رداء، شيمة/ ومنها use استعمال، فائدة، نفع، منفعة، ميل، ومنها form شكل، استمارة، صورة، نوع، هيئة، ومنها mores عادات، تقاليد، سنة، عرف، ومنها constitution دستور، عرف، قانون أساسي، مزاج، بنية الجسم، ومنها manners أخلاق، عادات، عادات حميدة،
ومنها Know علم، عرف، فهم، درى، عانى، ميز، ومنها define عرف، حدد، عين، وضح، ظهر، ومنها realize أدرك، فهم، حقق، استوعب، عرف، وعى، ومنها أيضاً
see شاهد، رأى، تصور، فهم، فحص، عرف، ومنها locate حدد، وجد، أقام، استقر، إكتشف موضع شيء، عرف sort out شرح، عرف، فهم acquaint طلع، عرف، خبر
figure out اكتشف، قرر، عرف impart نقل المعرفة، تعلم، عرف، نقل الأخبار
وتحدثت قبل قليل عن العرف (بضم العين وسكون الراء) والجمع أعراف، ونغير حركة العين فتصير العَرْف (بفتح وسكون) فتعني الرّيح طيّبة كانت أَو خبيثة يقال ما أَطيَبَ عَرْفَه، وعَرَّفَه طَيَّبَه وزَيَّنَه، والتعْرِيفُ التطْييبُ من العَرْف، قال تعالى في سورة محمد: ويُدخِلهم الجنة عرَّفها لهم، أي طَيَّبها، ومن أطرف الأشعار ثلاثة أبيات للشاعر العظيم أبي تمام من قصيدة بلغت 55 بيتاً
وإذا أَرادَ الله نَشــرَ فضيــلــة طـُويتْ، أتاحَ لها لسانَ حسودِ
لوْلا اشتعَالُ النَّارِ فيما جَأوَرَتْ ما كَانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ
لولاَ التخوفُ للعواقبِ لمْ تزلْ للْحَاسد النُّعْمى على المَحْسُودِ
وهذا ذمٌّ بما يشبه المدح، فهو يمدح ظاهرياً الحسد، ويشبهه بالنار التي تشتعل، لكن هذه النار أتاخت معرفة عطر العود ورائحته الطيبة.
قلنا إن «عرَّفه» تعني طيَّبه، لكن الكلمة تعني: جعله معروفاً، وفي اللغة لدينا المعرَّف والنكرة، ونقول معرَّف بكذا. والعُرْف العادة والقوانين غير المكتوبة، لكنه أيضاً مَنْبِتُ الشعر والرِّيش من العُنق كعرف الدِّيك والفَرَس والدابة وغيرها والجمع أَعْراف وعُروف، وأَعْرَفَ ألفَرسُ طال عُرفه واعْرَورَفَ صار ذا عُرف وعَرَفْتُ الفرس جزَزْتُ عُرْفَه وفي حديث ابن جُبَير ما أَكلت لحماً أَطيَبَ من مَعْرَفة البِرْذَوْن أَي مَنْبت عُرْفه من رَقَبته وسَنام أَعْرَفُ طويل ذو عُرْف، وناقة عَرْفاء مُشْرِفةُ السَّنام وناقة عرفاء إذا كانت مذكَّرة تُشبه الجمال وقيل لها عَرْفاء لطُول عُرْفها والضَّبُع يقال لها عَرْفاء لطول عُرفها وكثرة شعرها.
وقلنا إن عرَّفه تعني طيَّبه، كما نقول عطـَّره، فهو معرِّف ومعرَّف بكسر الراء وفتحها، واسم الفاعل من «عرف» بثلاث فتحات عارف، وصيغة المبالغة من عارف «عرَّاف» لكن هذه تعني أيضاً المنجم أو الكاهن، قال الشاعر العاشق المشهور عروة بن حزام.
جعلتُ لعرّافِ اليمامة حُكمَهُ
وَعَرّافِ حَجْرٍ إنْ هما شَفيانِي
فقالا: شفاكَ اللهُ، واللهِ ما لنا
بِما ضُمِّنَتْ منكَ الضُّلُوعُ يَدَانِ
أقول لهذه الصديقة المفترضة: أرأيت ما فعلت الحركات؟
copy short url   نسخ
27/10/2019
2550