+ A
A -
كنت في التاسعة من عمري حين قامت الحرب، كنا نعيش في دمشق في بيت يتوسط ساحة العباسيين وساحة جورج خوري، ساحة العباسيين كانت مركزا لتجمع المركبات العسكرية التي تقل المقاتلين السوريين إلى الجبهة، كنا، نحن الصغار، نتجمع معا لتحية الجنود والعساكر في طريقهم إلى الحرب.
ذاكرتي عن تلك الفترة ما زالت متوهجة: مشهد زجاج نوافذ البيوت مغطاة باللاصق الأزرق على شكل حرف (X)، حماية للزجاج من التحطم بسبب صوت الغارات الجوية المفاجئة، ضيوف بيتنا القادمون إلينا بزيارات لا يعرف أحد كم تمتد، بعد تعرض أحيائهم لغارات معادية، استهدفت منازلهم، الصمت والهدوء المترقب والعتم المراوغ الذي كان يسيطر على الحي الذي نعيش فيه مع مغرب الشمس، كانت الحرب في رمضان، رغم أن المنطقة التي كنا نقطنها أغلب سكانها مسيحيون، إلا أن طقس رمضان كان يعمم على الجميع، مع أذان المغرب، كان الهدوء التام يسود في الحي، لم يكن مسموحا لنا، نحن الصغار، اللعب في الشارع تلك الفترة، لم نكن أطفالا فترة الحرب، فالحرب عادة ما تلغي الفوارق العمرية بين الناس، الجميع خائفون ومترقبون ومنتظرون وآملون، غالبية الأسر السورية كان لها أحد في جبهات القتال، غالبية الاسر السورية أيضا كانت تنتظر مع أخبار النصر، أخبار أبنائها، وتترجى بقاءهم على قيد الحياة.
كان والدي تلك الفترة، يعمل رئيسا للقسم الثقافي في جريدة الثورة السورية الرسمية، (لم يكن في سوريا جرائد وصحف مستقلة، كلها كانت تابعة للدولة)، وقت الحرب توقفت الصفحات الثقافية عن الصدور، كانت الجرائد والصحف مخصصة كلها لنقل وقائع وأخبار المعارك، لم يعد هناك صفحات اقتصادية أو رياضية أو ثقافية أو فنية، إذ (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، كما كان دارجا القول، السوريون أنفسهم أيضا، لم يكونوا مستعدين لسماع أو قراءة ما هو خارج عن أخبار الحرب، كان والدي يحضر إلى البيت كل مساء نسخا كثيرة جدا من عدد الغد لصحيفة الثورة، كانت مشاركتنا أنا وأخي الكبير في الحرب، هي القيام بتوزيع نسخ الأعداد اليومية، مجانا، على سكان الحي، كنا نفعل ذلك أول السحور، في الظلام، نحمل مصابيح صغيرة ونسخ الصحيفة ونقرع أبواب الجيران، نعطيهم النسخ ونمضي مسرعين، في البداية، كان السكان يستغربون ويمانعون بفتح الأبواب لنا، كنا نترك النسخة أمام الباب ونمضي، لاحقا تعودوا علينا في الأيام التالية، بعضهم كان يعطينا حبات شوكولاتة مستوردة، كان الذهاب إلى هؤلاء بمثابة النزهة لطفلة في التاسعة من عمرها.
إسرائيل كانت ولزمن طويل جدا، ما زال ممتدا حتى الآن، العدو الأول في الوجدان السوري، دفع السوريون أثمانا طائلة، وهم راضون، بسبب هذا الوجدان القومي والوطني الذي يملكونه، لهذا كان تفاعلهم مع الحرب عاليا، ليس فقط بسبب الخوف، بل بسبب الأمل في الانتصار على العدو، الذي يحتل أراضي عربية ومنها أراض سورية، الجولان المحتل بقي خاصرة مطعونة في الوجدان الشعبي السوري، لم يشف الطعنة الادعاء بالانتصار في الحرب، واسترجاع مدينة القنيطرة المحتلة، خرجت القوات الإسرائيلية من مدينة القنيطرة بعد الحرب، نعم، لكن المدينة بقيت على حالها حتى اللحظة، مدمرة ومهجورة ويمنع على أحد زيارتها إلا بتصريح أمني، يمنع على أهلها أيضا العودة إليها وإعادة إعمار منازلهم المهدمة، حسب الاتفاق الذي عقده الأسد الأب مع إسرائيل وقتها! ظل أهلها نازحين في المناطق السورية الأخرى، قسم كبير منهم اضطر لنزوح آخر أو لجوء خارجي، مع ملايين آخرين من السوريين، بعد حرب النظام على الشعب إثر الثورة عام 2011، حين أدرك السوريون أن الاحتلال والحرب لا تشترط وجود عدو خارجي، الأنظمة الحاكمة قد تكون هي الاحتلال والعدو في بلادنا، إذ لم ترتكب إسرائيل في حق السوريين جزءا بسيطا مما ارتكبه النظام السوري من جرائم بحقهم، لن ينسى السوريون هذا أبدا بعد اليوم، مثلما أنهم لم ينسوا خديعة الانتصار في حرب 1973ضد إسرائيل، العدو المفيد والضروري لبقاء النظام السوري على قيد الحياة وعلى كرسي الحكم حتى اللحظة، رغم هول الجرائم التي ارتكبها في حق سوريا والسوريين معا.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
09/10/2019
2000