+ A
A -
أوقظوني اليوم باكرا، علىَ ان أحفر قبرا لشخصية قالوا عنها أنها مهمة، لاقيمة للأهمية عندي فوظيفتي تتسم بالعدالة مع جميع الزبائن، جميع الزبائن عندي على قدم واحد من المساواة، الفرق فقط في الأسم.لكن اجراءاتي واحده تبدأ بالحفر وتنتهي بإهالة التراب على الميت في الحفرة التي حفرتها.،أذكر قبرا حفرته لأحد المتوفين لم يصاحبه من المشيعين سوى ثلاثة أشخاص أو أربعة، لكنه كان من أسهل القبور حفرا وكأن الارض تحتفي بمقدمه، يأتي لزيارته بين حين وآخر شخص واحد يقف طويلا أمامه ثم يذهب،بعد أن يسلم علي ويمد يده لي ببعض الدراهم، في إحدى المرات سألته عن المتوفى قال:هو والدي،أنا إبنه الوحيد، سألته هل كان معدما قال لا،لقد كان صاحب منصب كبير وكان حوله رجال كثير،لكن ضميره إصطدم مع كثير من متطلبات منصبه، حيث كان على ثغر من ثغور المال العام، فترك المنصب إنتصارا لضميره وآثر الابتعاد حتى نسيه المجتمع السريع الخطى، وتوفى فجأة قبل أن يسعفني الوقت لتنشيط ذاكرة الناس حتى يستعيدون ذكراه.
نظرا لطول فترة عملي كحفار للقبور، اصبح لدي معيار خاص بي كمعايير البشر في الحكم على الاشياء انطلاقا من مايظهر لهم ويبين أمام أعينهم، فهناك من اشعر بسهولة كبيرة في حفر قبره، وآخر يستغرقني كثيرا من الوقت والارهاق حتى أكمل عملية الحفر، يقفز إلى ذاكرتي، ثقافة مجتمعي التي ذكرت، فينساب صوت في داخلي قائلا: هذا حسابه سهل، وآخر حسابه أصعب.
ذهبت إلى المقبرة وبدأت في حفر القبر للشخصية المهمة، بعد ان جاء من يحدد لي مكان القبر بالذات، مجموعات كثيرة من الناس بدأت تصل إلى المقبرة قبل وصول جثمان الميت ظلت خارج المقبرة تنتظر وصوله، جاءت به سيارة إسعاف، تسابق الجميع على حمله، بعدإكتمال الحفر بدأنا في الدفن، ومن ثم الدعاء له كالعادة، ثم بدأ الجمع في تقديم العزاء لذويه بشكل عشوائي داسوا على القبور وتزاحموا على أحد أبنائه الذي كان احدهم وزيرا والآخر رجل أعمال بارزا، بشكل أساء لحرمة الاموات، لمحت مجموعة تقف بعيدا في المقبرة ذاتها وتفترش حول شيء ما، ذهبت لاستطلع الأمر وجدتهم يفترشون رسما مساحيا كبيرا لمجموعة كبيرة من الاراضي المقسمة للبيع، ويتداولون الاسعار فيما بينهم،عرفت «الدلال» السمسار الذي كنت دائما أجده حاضرا عند وفاة بعض الشخصيات التي يطلقون عليها صفة «الأهمية». جميع المشيعين اما ذهبوا حالا مع ابناء الميت أو انضموا إلى حلقة الدلال التي تأخرت بعد ذلك وقتا ليس باليسيرإلا أنهم إنقلبوا إلى أهليهم فكهين بعد ذلك.
من يتعامل مع الموت دائما ومباشرة، يقيم مسافةَ بينه وبين الدنيا بحيث لاتفترسه، رغم صعوبة المهنة وعدم تقبلها اجتماعيا والنفور منها عندما ادخل المجالس لايُرحب بي، بل ربما يتشاءم البعض من رؤيتي،أعلم أن مهنتي في طريقها إلى الزوال والانتهاء اليوم بعد اعتماد الحفر والدفن آليا بالشيول المتحرك ، لكن ما يشغلني هو تاريخ مهنتي هل سيشفع لي وأجد من يشيعني ويضعني في قبر إلى جانب مئات القبور التي حفرتها وهل سيكون هناك من يشيعني وقد كانت حياتي أصلا بين الاموات، حيث لادنيا ورائي تركتها،ولا حتى تركت الناس في غفلة من تذكر مصيرهم المحتوم.
عبدالعزيز بن محمد الخاطر
copy short url   نسخ
23/06/2016
1780