+ A
A -
ثمة مراجعات عديدة للعقود السابقة من الزمن العربي، بدأت تظهر على شكل مقالات صحفية أو في مدونات إلكترونية، مراجعات سياسية واجتماعية، ومحاولات لفهم هذا القدر الكبير من الهزائم التي أصابت الشعوب العربية، واستهدفت أحلامها بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما استهدفت حاضرها ومستقبلها القريب والبعيد.
بحيث تم إغلاق كل نوافذ الأمل، خصوصا لدى الشباب في بلاد الربيع العربي، الذين أصبحوا إما لاجئين في دولة أوربية ما، أو تجندوا في كتائب وتنظيمات متطرفة في محاولة إنكار لهزائهم، أو مختفين ومغيبين في معتقلات أنظمة الاستبداد العربي، أو أصبحوا سكان المقابر التي اتسعت على طول البلاد وعرضها، بوصفهم ضحايا جرائم الأنظمة، سواء أكانوا من طرف الأنظمة أو ضدها، (سوريا مثلا فقدت تقريبا جيلين كاملين من شبابها في حربها العبثية التي زج بها نظام الأسد السوريين، أكثر من نصفهم هم من المنتسبين إلى مؤسساته العسكرية والأمنية)! أما من بقي حيا، أو من كان طفلا وكبر خلال السنوات العشر الماضية وبقي في بلده، فمصيره إما التطرف أو الاكتئاب أو الإدمان، حيث ترتفع حالات الانتحار إلى مستوى غير مسبوق في هذه الدول، وهو ما لا يحكى عنه رسميا، بل يتم تناقله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أما حالات الإدمان فهي، على ما يبدو، أكثر بكثير من أن يحكى عنها، إذ أصبحت بمثابة ظاهرة عامة، وتفشت بحيث وصلت إلى الأطفال تحت سن المراهقة، وهو ما يدل على حالة اليأس المطلق الذي يسيطر على الجميع، ويدل أيضا على الفشل الذريع الذي منيت به حياتنا، نحن أبناء هذه البلدان المنكوبة، وعلى حالة التجبر والتكبر والإجرام التي تتمتع بها أنظمة الاستبداد العربي بمنظوماتها العميقة ومؤسساتها القديمة، التي تقاوم بعنف مهول كل موجات التغيير التي يمكنها أن تعاود الظهور في المجتمع العربي.
على أن بعض المراجعات الفكرية التي بدأت تظهر مؤخرا، خصوصا بما يتعلق منها بالمجتمعات والشعوب العربية، تعزي حالة الهزيمة التي منينا بها إلى التخلف والجهل والتعصب الديني (الإسلامي) الموجود لدى شرائح مجتمعية واسعة في المجتمعات العربية، محملة هذه الشعوب أسباب الهزائم، ودون ريب أن ما تعاني منه هذه الشرائح كان له دور كبير في نجاح الثورات المضادة، سواء عبر تجنيدها من قبل الأنظمة؛ لتكون ذراعه الضاربة لتحقيق الفوضى، أو عبر تسليم نفسها لتجار الدين ونكوصها نحو المزيد من التخلف رضوخا لهم، على اعتبار أن هؤلاء ينتصرون للخلافة الإسلامية التي ستحقق لهذه الطبقات العدالة الاجتماعية التي يحلمون بها، نعم من المؤكد أن هذه الشرائح لعبت دورا كبيرا في انتصار الثورات المضادة للربيع العربي، عن جهل وعدم دراية، ومن الضروري التنبيه لذلك وكشفه، ولكن ثمة قفز لدى المراجعين نحو النتائج، دون الاقتراب من الأسباب، التي هي المصدر الوحيد لكل هذه الكوارث التي نعيشها، إذ يعرض بعض هؤلاء لواقع هذه الشرائح، وخصوصا لتمسكهم المتطرف بالدين، معتبرا أن هذا التمسك هو من أوجد حالة الفقر والجهل الذي يعيشه هؤلاء، وهو كلام حق بشكل ما، ولكن ثمة باطل كبير خلفه، إذ ليس هناك جينات للتطرف لدى البشر، لا توجد مجموعة تولد متطرفة ومجموعة تولد معتدلة، التطرف نتيجة لأسباب سياسية واقتصادية أولا، الفقر والجهل الذي تعيشه هذه الشرائح، هي من جعلتها بؤرا مناسبة لينجح فيها الفكر المتطرف والكاره للآخر، والفقر هو نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة، والجهل أيضا نتيجة لسلسة التهميش والإقصاء التي مارستها الأنظمة العربية عبر عقود طويلة على كل الأطراف في دولها، حيث لا تنمية ولا تعليم ولا طبابة ولا يتمتع هؤلاء بأي حق من حقوق المواطنة العادية، تركتهم هذه الأنظمة لمصائرهم، وفتحت في الوقت نفسه المنافذ لتجار الدين، درءا لشرورهم، في أهم تحالف بين المؤسسة الدينية والسياسية الأمنية، عبر التاريخ العربي، حدث هذا في كل البلدان العربية المحكومة من العسكر.
{ (يتبع)
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
21/09/2019
1713