+ A
A -
إلى حد كبير ترتبط غريزة حب الحياة بالنبوغ في البحوث العلمية، لأنه من وظائف البحوث العلمية تنقيح الحياة وقهر معضلاتها وتحسين بيئتها والإضافة إليها وانتشال الإنسان من براثن الفقر والجهل والمرض، فضلاً عن صناعة القوة التي تصون المجتمع وتردع خصومه والمتربصين به.
ولهذا لا مبالغة لدى القول إن الصعود الحضاري للمجتمعات الإنسانية أكثر ارتباطاً باهتمامها الكبير بالبحث العلمي وأهم بكثير من امتلاك هذه المجتمعات فائض من الثروات الطبيعية، بدليل أن اليابان البلد العملاق اقتصادياً لا يمتلك ثروات طبيعية كامنة في أرضه، ولكنه يمتلك شعباً عظيماً في ثقافته وفي تركيزه وإيمانه بضرورة إيلاء البحث العلمي اهتماماً كبيراً.
لكل ذلك يحق لليابان أن تدق ناقوس الخطر، كما فعلت مؤخراً، وكما أعرب مسؤولون فيها عن قلقهم حينما لاحظوا تضاؤل البحوث العلمية الأساسية التي يقوم بها باحثو بلاد الشمس المشرقة، وتبينوا أن هذا التضاؤل سوف يتسبب في إضعاف احتمالات فوز اليابان بجوائز نوبل، ولهذا صارت مشكلة اليابان أن قائمة الفائزين بجائزة نوبل قد تخلو من اسم أي من باحثيها أو علمائها النابغين.
مجتمعاتنا العربية لا تكترث لذلك، ولا تهتم بنوبل أو بغيرها فمعظم بلادنا العربية غارقة في مشاكلها الداخلية أو الإقليمية، وهي غالباً تهمل مفاتيح تقدم المتقدمين، حيث نجد أن اليابانيين لهم معايير أخرى في تقييم مكانتهم تحت الشمس في العالم، وهم الذين أدركوا مبكراً قيمة وأهمية إيلاء البحوث العلمية اهتماماً كبيراً، باعتبار أنه لا تفوق اقتصادي إلا من خلال التفوق في البحوث العلمية، وأن الصناعة اليابانية دخلت كل البيوت في العالم لأن علماءها وباحثوها نجحوا باقتدار في ردم الفجوة بينها وبين العمالقة والمتقدمين.
وخلال الفترة من العام 2004 حتى العام 2006 كانت اليابان تحتل الترتيب الرابع بين الدول من حيث عدد الأبحاث العلمية المنشورة بعد كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، ولكن في الأعوام من 2014 وحتى العام 2016 هبطت اليابان أو تدحرجت إلى الترتيب التاسع بين الدول من حيث عدد الأبحاث المنشورة، بعد أن سبقتها في ذلك كل من الولايات المتحدة والصين و بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأستراليا وكندا، ولهذا بدأت بلاد الشمس المشرقة تستشعر قلقاً بالغاً، لأن هذه الأرقام والحقائق تنذرها بتراجعات في مقابل قفزات إلى الأمام تحرزها دول أخرى، لأنها تدرك جيدا ان التفوق في البحث العلمي وثوب إلى الأمام والعكس صحيح.
هذا الترجع البحثي الياباني ليس مفصولاً عن القضايا والتحديات الرئيسية التي صارت تعاني منها اليابان حالياً، وفي مقدمتها الانخفاض الكبير في عدد المواليد وقلة عدد الشباب، وحالة التشيخ الديموغراقي التي صارت تعاني منها اليابان، إلى درجة اضطرار هذا البلد إلى استقدام عمالة شابة من دول آسيوية قريبة منها، لتعويض النقص الفادح في عدد الشباب، وبالتالي لم يعد التعليم الجامعي في اليابان يستقبل عددا من الطلاب والطالبات اليابانيين كان يستقبلهم في أزمنة سابقة.
وفي الوقت ذاته علينا إلا نتجاهل أيضاً تعملق النمور الآسيوية المنافسة لليابان وبخاصة كوريا الجنوبية والصين، وهي دول أدركت واستعارت مفاتيح تقدم المتقدمين وفي صدارتها معامل البحث العلمي في كافة فروع العلوم، فضلاً عن التغير الحاصل في النظام الدولي من عالم الثنائية القطبية إلى عالم التهددية القطبية، مما تسبب في تنافس صامت بين معامل البحث العلمي في العالم من أجل صناعة القوة من جانب، والتفوق الاقتصادي من جانب آخر.
بقلم: حبشي رشدي
copy short url   نسخ
21/06/2019
2522