+ A
A -
} قد لا نكتفي في اللغة العربية بالصفة، بل نؤكدها بصفة أخرى، فنقول مثلاً: جاء الباسل الهُمام، وكلتا الكلمتين بمعنى شجاع، وأقرأ أحياناً: برد قارص، فكأن البرد يقرص الإنسان، والقرْص أخذك لحم الإنسان بإصبعيك حتى يؤلمه، قرص يقرُص قرْصاً فهو قارص ومقروص، فكأن البرد يقرص الإنسان كما تقرصه البراغيث. لكن هذا غير صحيح، بل هو البرد القارس، والقرْس البرد الشديد، ويقال: قرس البرد إذا اشتد، والقرس هو البرد كالقارس والقريس، ويقال يوم قارس بمعنى يوم بارد، والقرْس (بفتح القاف وكسرها) أكثف الصقيع وأجمده، والقرَس الجامد من كل شيء، وقرس الماء يقرِس قرْساً: جمد.
} تمر كلمتا «قِطّ وقطة» كثيراً في أحاديثنا اليومية، وقد سمعت من يقول إنهما خطأ، والصحيح «هِرّ وهرة» ولكن علماء اللغة القدماء أجازوها، وإن كان «ابن دريد» قد قال: لا أحسبها عربية، أما الليث فقال: القِطة السِنـَّور، وهو نعت لها دون الذكر، وقال ابن سيده: القط هو السنور، والجمع قِطاط وقِططة، وأنكر كراع أن يقال قطة. أي إن اللغة الفصيحة ترفض القط والقطة، وتصر على الهر والسنور. يا سادتي، كيف لو جئتم اليوم وسمعتم أسماء هذا الحيوان في الأقطار العربية؟
} قد تسمع أو تقرأ أمثال هذه الجملة «فلان مدين لفلان بألف ريال فقط» أو «اشتريت هذا الشيء بمائة ريال فقط» والمستغرب في هاتين الجملتين وأشباههما كلمة «فقط» بمعنى لا غير، منعاً للتزوير والزيادة، وقد تأتي بصيغة سؤال، فيقول أحدهم: زرت مصر مرتين، فيقول آخر: فقط؟ ويرد في المعاجم الحديثة فعل اشتق منها «فقـَّط» أي استخرج الناتج وأضاف كلمة فقط، وكنت أسمع العامة يقولون «فقِّطه» أي خذ الخلاصة وضع كلمة فقط في النهاية. والكلمة مكونة من حرف الفاء وكلمة «قـَطـّ» فمن أين جاءت؟ تقول المعاجم الحديثة إنها ظرف مختص بما مضى من الزمان، ويقول المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة إنها كلمة مولدة، ولكن! من ولـّدها؟ ومتى؟ إن المعاجم القديمة تخلو منها، مع أن عمر أشهر وأهم هذه المعاجم العربية لا يزيد عن 700 عام وهو معجم لسان العرب لابن منظور الذي ولد عام 1232م وتوفي سنة 1311م، بينما نجدها في كتب مؤلفين أقدم مثل الزمخشري المتوفى سنة 1143م والجاحظ المتوفى سنة 869م، ووجدتها في أكثر من مائة كتاب من الكتب القديمة.
} يسمي الإخوة في المغرب العربي الكبير الفندق باسم «النـُّزْل» وهي تسمية صحيحة فصيحة، وأصلها فعل «نزَل» ونعرف أنه ضدُّ صعد أو ارتقى، لكنه هنا من نزل بالقوم إذا جاءهم، والنزول عكس الصعود، لكنه يعني أيضاً الحلول. والنزُل تعني المنزل، قال تعالى «وجعلنا جهنم للكافرين نزُلاً» وقال عز وجل «جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نُزُلاً» والنـُّزل (بضم الزاي وسكونها) ما يهيَّأ للضيف، وفي الحديث الشريف «اللهم إني أسألك نزل الشهداء».
ويذكرنا هذا بالخان، وهي كلمه أعجمية تدل على الفندق, وهو محل نزول المسافرين.
وكان الخان في البداية ساحة في وسطها بئر ماء، ويحيط بها سور عال, ثم تطور ليصبح بناية كبيرة حصينة, يبعد الخان عن الآخر مسافة سير يوم واحد، ويضم مستودعات لحفظ البضائع واسطبلات مختلفة لايواء العربات وأنواع الحيوانات التي لا تتجانس في الزرائب. يتكون الخان من طابقين عادة,الطابق الارضي توضع به البهائم, والطابق العلوي ينام فيه أصحاب القوافل.
قلنا إن النزل والخان بمعنى الفندق، وقد يظن بعضنا أن كلمة فندق كلمة حديثة، ولكنها قديمة أصلها فارسي، وعرّفه المعجم بأنه الخان، وقال بعض الأعراب إنه فنتق، على وزن فستق
} «غور في ستين داهية» نسمع هذه الجملة في حوارات الأفلام والمسلسلات، وتفهم دون البحث عن أصل الكلمة أن «الداهية» تعني المصيبة الكبيرة، ولكننا نقرأ «وكان ملكاً داهية» وقد نقرأ في التاريخ الإسلامي «وكان عمرو بن العاص داهية» فما العلاقة بين المعنيين؟ ونقرأ «وتميز بالدهاء» وينصرف الذهن إلى المكر والخداع.
الدهاء هو العقل، ويقال: هو داهٍ من قوم دهاة، والمألوف أن يقال: رجل داهية، والهاء للمبالغة، كما نقول: راوٍ وراوية، فكيف انتقلت الداهية إلى معنى المصيبة؟ قالوا: كل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهْياً، ويقال: ما دهاك؟ ولا تعني بعامة ما أصابك، والدهياء الداهية من شدائد الدهر والجمع دواهي، وهي ما يصيب الناس من عظيم نُوَبِه، من هنا يمكن أن نستنتج الصلة الخفية بين الداهية وهو الرجل الحاذق الذكي مع شيء من المكر، والداهية وهي المصيبة من مصائب الدهر.
} قرأت لكاتب خفيف الظل مقالة قال فيها «وكان له الكعب المعلى» وقلت لنفسي: لم يعد أحد يستخدم هذه المصطلحات، فهل أشكر له أنه ذكرنا بها؟ أم أتهمه بالتقعر لأن قلائل من سيعرفون معناها؟ نفهم من القول أنه كان متقدماً متفوقاً على أقرانه. ونقرأ في الكتب القديمة «وله القدح المعلى» أما هذه فلها شرح حسب المعجم، وقبل ذلك كيف نقرؤها؟ إنها القِدْحُ (بكسر القاف وسكون الدال) المُعلـّى (بضم الميم وتشديد اللام) فما معناها؟ أما المعلى فمن العلوّ، نقول علـّى البنيان إذا زاد في ارتفاعه، وعلـّى صوته إذا رفعه، ونستخدم هذا الفعل يومياً في أمور كثيرة علـّى يعلـّي.
نعرف القدح وجمعه أقداح، وهو آنية للشرب، أما القدح (بكسر القاف) فهو السهم قبل أن يضاف إليه الريش في آخره والنصل في مقدمه، أي هو الغصن إلى يشذب ويقطع على مقدار السهم، ويقابل هذا «القناة» وهي الغصن الأكبر الذي يصير رمحاً، والقِدح هنا قدح الميسر، والجمع أقدُح وقِداح.
} يكثر ورود كلمة «العصابة» وجمعها «العصابات» في الأحاديث والكتابات، فيقال: «عصابات ترويج المخدرات وتهريبها، عصابات السرقة، وتم اكتشاف عصابة لخطف الأطفال» كما يكثر ذكر العصبية، وقد تمر بنا كلمة «العصبة» وقد ظلت «عصبة الأمم المتحدة قائمة حتى الحرب العالمية الثانية، أولاً ما الفرق بين عصبة وعصابة؟ وهل تحمل كلمة عصابة معنىً سيئاً؟
العصابة أولاً ماعُصب به، ويقال: عصَب رأسه وعصَّبه شدّه، والعصابة ما يُشدّ حول الرأس، وقد تعني العِمامة، فما علاقتها بالعصبة؟ العصبة بنو الرجل وقرابته لأبيه، والعصبة والعصابة جماعة ما بين العشرة والأربعين، ونتذكر قوله تعالى في سورة يوسف على لسان إخوته «إذ قالوا ليُوسُفُ وأخوهُ أحبُّ إلى أبينا منّا ونحن عُصبة، إنّ أبانا لفي ضلال مُبين» وبيّن سبحانه في السورة نفسها أن أباه أبلغهم خوفه أن يأكله الذئب فقالوا: ‏«لئن أكله الذئبُ ونحن عُصبة إنا إذن لخاسرون‏» لا فرق إذن بين عصابة وعصبة، لكن ما اشتهر بين الناس عن جماعات الإجرام بكل أشكاله، جعل لكلمة عصابة هذا المعنى السيئ.
copy short url   نسخ
17/06/2019
1856