+ A
A -
تستطيع أن تكتب عن أي ثيمة داخل الرواية دون أن تكون عايشتها بشكل شخصي أو مررت بها كتجربة حياة، تستطيع أن تكتب عن حب أو عن جريمة أو عن هجرة.. لكن ماذا عن الجوع؟! أظن أن الجوع في النهاية تجربة شخصية لا يمكن تخيلها، أو الوصول إلى حقيقتها ما لم تُخض بشكل شخصي، لا يمكن أن تجلس وأنت ممتلئ وتكتب عن الجوع، عن بطل أو أبطال يجوعون، ذلك الجوع الحقيقي، الذي يصل إلى العظم، لا أظن بأنه من الممكن التوصل إلى حقيقته عن طريق الخيال وحده، إلى أثره الذي يتجاوز الفسيولوجي ويصل إلى السيكولوجي، أي يتجاوز الجسد ويصل إلى الروح والسلوك والوجدان، عن طريق التجربة الكتابية وحدها. في الروايات التي تناولت هذه الثيمة نجد أن هناك تجربة (شخصية) للكتاب الذين قدموا هذه الأعمال ألقت بظلالها على كتابتهم، وخلفت نوعا من الروحية الصادقة عليها، للدرجة التي يصل إليك معها أثرهم الكتابي بشكل يفوق المعتاد وبطريقة لا يمكن تفسيرها إلا بأن هناك نوعا من المعايشة الشخصية أو تماسا حقيقيا مع هذه التجربة الحياتية القاسية. في رواية الجوع يتحدث النرويجي كنوت همسون - والذي بالمناسبة عايش بالفعل تجربة حياتية مرة وقاسية مع الجوع- عن التدهور الذهني والنفسي للبطل، بعد أن حاول جاهدا الحفاظ على مظهر جسدي ونفسي متزن، لكنه في النهاية فقد السيطرة.. «وطفقت أنقب حولي في الغرفة، وأغدو وأروح فيها بلا إرادة، أخمش بأظافري الحائط وأضع جبهتي على الباب في حذر، وأدق بسبابتي على الأرض، وأصغي بانتباه، كل هذا دون قصد ولكن بهدوء وتفكير، كما لو كنت أعتزم أمرا مهما وفي الوقت نفسه أخذت أقول بصوت عال مسموع: إن هذا الخبل يا إلهي العزيز». وهكذا على امتداد الرواية تجد وشاية بطريقة أو بأخرى عن أمر يتحدث عنه الكاتب حديث من عايشه وجربه بنفسه. وفي رواية «متشرداً في باريس ولندن» للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، التي تتحدث عن سيرة جائع آخر، يعمل كصحفي، أجبرته حالة العوز والجوع أن يعيش بطريقة لا يمكن وصفها إلا عن طريق معايشة واقعية وحياتية.. وهو توقع تفرضه طبيعة الكاتب جورج أوريول نفسه، والذي يبدو أنه مؤمن إلى حد بعيد بهذه الفكرة، فكرة معايشة التجربة بشكل مقصود أو غير مقصود، إذ أنه تعمد أن يسجن نفسه حتى يستطيع معايشة فكرة روايته الأخرى «مزرعة الحيوان»؛ إلا أن هناك جوعا من نوع مختلف، معاش صحيح، لكنه يأخذ بعدا آخر وهذا ما حدث مع الطفلة الجائعة آميلي نوثومب في «بيوغرافيا الجوع» رواية السيرة الذاتية للكاتبة، تلك السيرة المرتكزة على فكرة الجوع، ففي حديثها عن ذلك الإقليم «إنها أرخبيل أوقياني يدعى فانواتو، ما كان يعرف في الماضي بهيبريدس الجديدة ولم يعرف الجوع يوما»، لم يعرف الجوع نتيجة للوفرة، مما يصيب سكان هذا الأرخبيل بالسأم، أو الجوع إلى الجوع،والنتيجة التي يصل إليها حال هذا الإقليم أنه يصبح مهملا ومعزولا، وكأن الروائية تشير إلى الدور الخفي الذي يلعبه الجوع كشعور فردي أو جماعي محرك وخلاق.. يستوي في ذلك من حيث الحضور أو الغياب.
بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
19/06/2016
2563