+ A
A -
في الطفولة كان آباء وأمهات يدربون اطفالهم مبكرا على التفكير في جلسات سمر عائلية، من خلال طرح اسئلة تحرك تروس العقل وتزيل عنها صدأ الرتابة والاعتياد، ومن هذه الاسئلة: هل اننا نعيش لكي نأكل ام نأكل لكي نعيش؟ ويمكن طرح ذات السؤال بصيغ أخرى، مثل: هل الأكل غاية في حد ذاته أم وسيلة ؟
ربما ان احدى غايات هذا السؤال تقسيم البشر إلى قسمين، اولهما يركز همه على بطنه وما يملأها به من طعام لذيذ وشهي، وثانيهما لا يحفل بماذا يأكل، بل انه يعتبر الاكل مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة، أي انه لا يفكر من خلال بطنه وما يحشوها به من طعام وشراب، لأنه يوجد في الحياة ما يسترعي التركيز عليه والسعي اليه، فلا ينتهي مسعى المرء وتخطيطه في الحياة فقط عند حصوله على الطعام.
في واقع الأمر انني لم اجد اجابة سريعة حينما طرح علي هذا السؤال في طفولتي، اذ آثرت التريث قبل التورط في اجابة شاردة حمقاء تجلب السخرية على وجه جدي - رحمه الله - الذي خصني بهذا السؤال، وبعد وقت اجبته: اننا نأكل لكي نعيش دائما، واحيانا نعيش لكي نأكل !، فمازحني بقوله: استاذ في مسك العصا من منتصفها والجمع بين المتناقضات !
حديثا قرأت ان مخرجا سينمائيا برازيليا يدعى مارسيلو جوميز طرح على جمهوره سؤالا شبيها بسؤال جدي يقول: هل نعيش لكي نعمل أم نعمل لكي نعيش ؟، وذلك في فيلم وثائقي برازيلي، عرض فيه التغير الذي طرأ على حياة قرية كانت في طفولته تعيش في هدوء وصمت حتى انه يمكن فيها سماع صوت الابرة ترن ان سقطت، اما الآن فإن صخبا اصاب هذه القرية اثر تحولها إلى صناعة بناطيل الجينز، فهدير اصوات الماكينات يشيع ضجيجا، والناس في هذه القرية مجرد تروس في صناعة اخذتهم وسيطرت على حياتهم، كما ان أناس هذه البلدة لديهم مصانعهم الخاصة، فهم الملاك والعمال.
وفي فيلمه الوثائقي الذي عرض في مهرجان برلين يحلل جوميز الطريقة التي يعيش بها سكان البلدة ويتساءل ما إذا كانوا يعملون من أجل المال أم من أجل متعة العمل.
ولكن في نهاية الفيلم ارتدت هذه القرية واهلها إلى سابق عهدها فقد باعت الأسر كل ممتلكاتها من ثلاجات وماكينات حياكة لجمع المال اللازم لقضاء عطلة على الشاطئ، ولثمانية أيام تصبح البلدة خالية تماما كما يتذكرها جوميز من الطفولة، أي ان هذه البلدة واهلها عملت لكي تعيش.
أما في اليابان فيوجد مصطلح يسمى «كاروشي» ويعني «الموت من الإرهاق»، ويعبر عن الموت الفجائي بسكتة قلبية للموظفين الذين يعانون من ضغط العمل، أي ان اليابانيين يمكنهم ان يعملوا بدأب حتى الموت ولهذا تقدموا واصبحوا من اهم الامم في دنيانا، اما نحن فغالبا خارج سياق عشق العمل وتقديسه واحترام مقتضياته، فكثيرون لا يعيشون لكي يعملوا ولا حتى يعملوا لكي يعيشوا !
حبشي رشدي
copy short url   نسخ
26/02/2019
3083