+ A
A -
يعترض بعض المثقفين والكتاب العرب ممن لديهم حسابات أو صفحات شخصية في العالم الافتراضي الأزرق، الفيسبوك، على امتلاء صفحة الفيسبوك الرئيسية بصور الكتب الجديدة، والدعوات للتوقيع وشراء الكتب، تزامنا مع معرض الكتاب في القاهرة في يوبيله الذهبي، وحجتهم في ذلك، أن دور النشر تستسهل موضوع الكتابة، وتتيح لأي كان أن ينشر كتاباً له، سواء أكان رواية أو مجموعة شعرية أو أي نوع من أنواع الأدب.
وهذا، حسب زعمهم، يسيء لفكرة الكتابة الجادة التي تحفر في عمق الثقافة وتمتد للمستقبل لتساهم في تكريس قيم ثقافية ترفد الثقافة العالمية وتتلاحم معها، لصالح العادي والسهل والآني والعابر، وإلى ما يمكن أن يحقق متعة ما في القراءة لكنه لا يضيف شيئا جديدا، ولا يمكن التعويل عليه في الفعل الثقافي المؤثر، ولا يمكن التعويل عليه أيضا في أن يشكل مرجعية أدبية وذائقة معافاة لدى الأجيال القادمة. ينطلق المعترضون أولئك، من فكرة أن الكتابة فعل عظيم وقيمة كبيرة لا يجوز الاستخفاف بها، وأن إطلاق لقب (كاتب) على كل من أصدر كتابا ما هو إلا نوع من أنواع الخطل، وفيه تسطيح كبير، وقد يكون مقصودا، لقيمة الكتابة، مثلما فيه تفريغ كامل لمحتوى فكرة الكتابة بحد ذاتها، وهذا الرأي فيه من الصوابية الشيء الكثير، فحقا هناك استسهال لفكرة الكتابة والنشر، وحقا أن غالبية ما يكتب وينشر، إذا ما نظرنا له بمنظار موضوعي، هو ينحاز إلى اليومي والعابر والسهل والخفيف، إن صحت التسمية، وهو فعلا لا يحفر الآن في عمق الوعي الثقافي العربي لا جماليا ولا فكريا، وربما، كما يقول المعترضون، إن ما يكتب هو أقرب للكتابة الفيسبوكية، التي تكشف مباشرة أن صاحبها يكتب أكثر مما يقرأ بكثير، وأن مخزونه الفكري واللغوي والمخيالي شحيح، وهذه أسباب كافية للاعتراض على هذا النوع من الكتابة وعلى تسويقه من قبل دور النشر العربية، وحاليا من قبل دور نشر أوروبية، تترجم هذا النوع من الكتابة وتنشره باعتبارها نموذجا حيا وحاضرا عن الأدب العربي الحالي، خصوصا مع انتشار حركة اللجوء من دول الربيع العربي إلى أوروبا بعد فشله وانتكاس الثورات العربية، وازدياد إجرام الأنظمة الحاكمة قديمها وحديثها. غير أن ثمة رؤية أخرى للأمر، لا تقل أهمية عن الرؤية السابقة، بل ربما تكون أكثر موضوعية في وقتنا الحالي، فمع كل ما يحدث في بلادنا العربية، ومع حالة اليأس العامة وفقدان الأمل بكل شيء، وانعدام الآفاق وانسدادها في وجه أجيال حالية وقادمة من الشعوب العربية، ومع اكتشاف أن التغيير في بلادنا غير مسموح به دوليا، ومع ازدياد ظاهرة التطرف الديني والمذهبي، ومع كل الانقسامات والتحزبات القائمة، ومع تكريس الأنظمة العربية لحالة انحطاط ثقافية وفكرية وإعلامية وفنية مذهلة، ومع التراجع المضطرد في مستوى التعليم منذ مراحله الأولى وحتى المرحلة الجامعية، ومع السعي الحثيث للأنظمة ومؤسساتها الدينية لتكريس حالة تغييب الوعي والعقل وإبقاء المجتمعات في حالة عطالة فكرية وعقلية، وجعلها مرتبطة بكل ما هو غيبي وقدري لمنعها من التغيير السلمي المعافى والصحي، مع كل ذلك يصبح فعل الكتابة، مهما بلغت سطحيته، فعلا إيجابيا مطلوبا وضروريا وسط كل هذا الخراب العميم، تصبح الكتابة هنا نوعا من أنواع المقاومة، وتصبح قيمتها في ذاتها، فيما تفعله في فاعلها، يصبح حفرها في آنيتها وراهنها، وهو أمر بالغ الأهمية إزاء ما تعيش به بلادنا ومجتمعاتنا، إذ تفعل الكتابة هنا فعل مضادات الاكتئاب، تصبح نوعا من العلاج النفسي لمن يمارسها، فإذا كانت إحدى مهام الثقافة هي تكريس وعي جمالي ومعرفي، فإن الأمر الأكثر إلحاحا حاليا هو تكريس قيمة الحياة لدى الأجيال العربية بعد أن أصبحت العدمية فكرة شائعة ومنتشرة إلى حد كبير. وجد الكثيرون في الكتابة، مهما كان مستواها، طريقة ما للخروج من حالة العدمية والموت، وهو ما يضفي قيمة مهمة للكتابة العابرة والآنية، وربما يصبح السؤال التالي سؤالا محقا وضروريا: أليس من الأفضل والأجمل أن ينخرط كثر في فعل الكتابة، حتى لو كانت كتابة بلا قيمة بمنظار الإبداع، بدل انخراطهم في أفعال الكراهية والتحريض والحروب الصغيرة والكبيرة؟! أما القيمة الإبداعية لما يكتب وينشر حاليا فالزمن كفيل بإنصافها، لصالحها أو ضدها.
بقلم: رشا عمران
copy short url   نسخ
29/01/2019
2256