+ A
A -


الفِسق والفجور، كلمتان تحملان معنى سيئاً، وتردان على الأغلب متلازمتين، فنقول: وساد بين الناس في ذلك الوقت الفسق والفجور، أو: وامتلأت البلاد بالفسق والفجور، أو نقول إنه فاسق فاجر. كلمة الفِسق وما يشتق منها كلمة إسلامية بامتياز، أي إن الإسلام أعطاها هذا المعنى، وفي المعجم نجدهما بمعنى واحد، فسَق يفسق (بكسر السين وضمّها): فجَر، وقال المعجم إن الفِسق والفُسوق: ترك أمر الـلـه والخروج عن طريق الحق، أو هو الخروج عن الدين، كما فعل إبليس حين فسَق عن أمر ربه. وورد فعل فسَق مرة واحدة في القرآن الكريم في الآية 50 من سورة الكهف «إلا إبليس كان من الجن ففـَسَق عن أمر ربه» وقد وردت المشتقات من هذا الفعل 54 مرة في القرآن الكريم، كما في الآية 197 من سورة البقرة «فلا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج».
قلنا إن فعل «فسَق» والمشتقات منه اصطلاح إسلامي، ولم يُسمع قطّ في كلام الجاهلية ولا في شعرها، وأصل الفسوق الخروج، وفسَق فلان في الدنيا فِسقاً: إذا اتسع فيها وهوَّن على نفسه، وفسَق فلان مالـَه: أنفقه وأهلكه.
تطاردني اللغة حتى في فراشي. كنت أستعد للنوم حين خطر لي: نقول «فمٌ» وهو الجزء المعروف من الوجه، والميم مخففة ويجوز تشديدها «فمٌّ» لضرورة الشعر، ونقول أيضاً في تسمية هذا العضو «فو» وهو كما تعلمون من الأسماء الخمسة التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء، قال الأصمعي: سمعت صبية بدوية تنادي أباها ليعينها على قِربة فيها ماء «يا أبتِ، أدرك فاها، لقد غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها». ونعرف أن «فو» يجمع على «أفواه» ولكن كيف يثنى؟ ونثني فم فنقول «فمان» ولكن كيف نجمع «فم»؟
نثني «فم» فنقول فمان، لكننا لا نجمع فم على «أفماء» ولا على «أفمام» بل نعيد كلمة فم إلى أصلها وهو «فـَوه» ويصير الجمع أفواه كما ذكرنا، قال تعالى في الآية 30 من سورة التوبة «ذلك قولهم بأفواههم»، وفاه بالأمر أي نطق به، ومما يشتق من هذا أن نقول: رجل «مفوَّه» أي رجل متمكن من الكلام بليغ.
يروي ابن الجوزي في كتابه الممتع «أخبار الحمقى والمغفلين» عن مُدَّع كلما سئل عن شيء قال: شغلني عنه القرآن، وذات يوم قال لصديقه: جبير كان نبياً أم صدّيقاً؟ فسأله: ومن جبير؟ قال: المذكور في قوله تعالى «واسأل به جبيرا» فقال صديقه: يا غافل، زعمت أن القرآن شغلك. وهو يشير هنا إلى قوله تعالى في الآية 59 من سورة الفرقان «ثم استوى على العرشِ الرحمنُ فاسأل به خبيرا»
وما ذكرني بـ «جبير وخبير» أنني قرأت مقالة لكاتب يدعي أن عالم باللسانيات، قال فيها «يعتقدون أنهم يبدعون في توصيف الواقع، ولكنهم لا يحركون ثبيرا» قلت لنفسي: من أي عصر قفز هذا الكاتب إلى زمننا؟ من سيفهم قوله؟ ومن يعرف معنى ثبير؟
و«ثبير» جبل بمكة شرّفها الله تعالى، ولكن للكلمة معاني أخرى، وقيل إنها أربعة أثبرة كلها بالحجاز، والأشهر بينها حراء وثبير، وكانوا يقولون: لا أفعل كذا ما رسا ثبير وحراء مكانهما. لكن المهم أن الكاتب جاء بكلمة من بطون الكتب تحتاج إلى شرح طويل، ويريد من أبناء القرن الخامس عشر الهجري أن يفهموها.
وصمد المقاتلون صموداً بطولياً، وصمد الجيش العربي الصغير في وجه جحافل العدو، أيها الأبطال الصامدون، إن صمودكم البطولي أفشل مخططات العدو، سمعتم وقرأتم أمثال هذه الجمل والعبارات كثيراً، وتذكرون «جبهة الصمود والتصدي» التي انبثقت ردّاً على معاهدة «كامب ديفيد» بين السادات وإسرائيل، فمن أين جاءت كلمة «صمود»؟
صمَد صمْداً: قصد، وصمده وصمد إليه: قصده، والصمْد: المكان المرتفع من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلاً، والصمَد: السيد المطاع لا يُقضى أمر دونه، وهو من صفاته تعالى، لأنه أصمدت إليه الأمور فلم يقضِ فيها غيره، وقيل: الذي يُصمد إليه في الحوائج. والصِماد: الجِلاد والضِراب، نقول: صامده فهو مُصامد.
ولم أجد في أي من المعاجم القديمة فعل «صمَد صُموداً» بالمعنى الذي نتداوله الآن، وهو الثبات في وجه العدو في القتال، وأورد هذا المعنى «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية دون أن يبين الأساس الذي بنى عليه اشتقاق الكلمة.
لعل من النادر أن يمر يوم دون أن نسمع ونقرأ أن «مظاهرة» حاشدة خرجت في هذه العاصمة أو تلك، وقد نقرأ أو نسمع أن «المظاهرات» عمّت المدن الرئيسية، أو أن الناس «تظاهروا» بعشرات الآلاف تأييداً أو استنكاراً. وقد تستبدل كلمة «تظاهرة» بكلمة «مظاهرة» فمن أين جاءت هذه الكلمات؟ اخترع مجمع اللغة العربية في القاهرة هذه التسمية، وقال في المعجم الوسيط: تظاهروا: تجمعوا ليعلنوا رضاهم أو سخطهم عن أمر مهم، وقال أيضاً: المظاهرة إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة جماعية. ولكن للفعل «تظاهر» معاني أخرى، أولها: أظهر غير حقيقته، فنقول: تظاهر بالغنى، أو: تظاهر بأنه شاعر، أو: تظاهر بأنه متعلم.
و«التظاهر»: التعاون والتساعد، و«تظاهروا» عليه: تعاونوا، و«تظاهر» القوم تظاهراً: تعاونوا، ولكنه يعني أيضاً تدابروا، كأن كل واحد أدار إلى الآخر ظهره، فهو من كلمات الأضداد. و«المظاهرة» إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة جماعية، كما اقترح مجمع اللغة العربية، ولكن الكلمة تعني شيئاً آخر لا علاقة له بهذا كله. إذ كان العرب يطلـّقون نساءهم بأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، والمصدر: الظِهار والمظاهرة، فلما جاء الإسلام ألغى هذه العادة، وأوجب على فعلها الكفـّارة.
ونعرف «الظهير» في كرة القدم، ويقال: يلعب في موقع الظهير الأيمن أو الأيسر، ولكن «الظهير» في اللغة هو المعين وهو من القول: ظهر فلان على فلان: أي قوِيَ عليه، وهو أيضاً من يشتكي ظهره. ونعرف «المظهر» فنقول: إنه ذو مظهر حسن، ولكن الكلمة تعني في الأصل المصعد. أنشد النابغة الجعْديّ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدُنا وسناؤُنا وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضب: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنة يا رسول الله، فقال: أجل، إن شاء الله، ويومها دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفضُضِ الله فاك (لا فُضَّ فوك) فعاش أكثر من مائة سنة لم تسقط له سنٌّ واحدة.
قليلة هي الأفعال التي تشتق منها كلمات كثيرة، ومنها فعل «ظهر» ومن هذه الاشتقاقات: الظاهر والباطن، والظاهر، والظاهرة، وقد أخذت حديثاً معنى مغايراً لمعناها الأصلي فنحن نقول: ظاهرة الاحتباس الحراري، والظهر (بفتح الظاء وضمها) والظهيرة، وبين أظهُرهم وظهرانيهم، وعن ظهر قلب، وقد نعود إلى هذه الكلمات في مداعبات أخرى.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
21/11/2018
2652