+ A
A -
هل للخوف والخائفين رائحة ؟ الإجابة نعم، وهذا ما أثبته العلماء، حيث تبينوا أن هناك مادة كميائية تدعى «أيزوبرين» يفرزها حضور أفلام الرعب خلال تحركهم خوفا مما يشاهدونه، وفي تصوري أن نتيجة هذه الدراسة يمكن أن تتجاوز في تطبيقاتها رائحة الخوف لدى جمهور صالات السينما، إلى مواقف الخوف المختلفة التي نراها في الحياة، فبعض التلاميذ الصغار مثلا يشعرون بخوف لدى انتقالهم لأول مرة من البيئة البيتية إلى البيئة المدرسية، ويبلغ خوف هذا البعض حد الرعب والبكاء، بينما المطلوب أن يتم هذا الانتقال في مناخ مريح يبدد هذا الخوف ويحبب التلاميذ في مدارسهم، بل ويجعل هذه المدارس بيتا ثانيا لطلابها، وهذا ما تفعله بالفعل إدارات مدرسية مستنيرة بتعاونها سلفا مع الأسرة.
وأتذكر أننا حينما كنا تلاميذ صغار في الابتدائي والإعدادي أننا كنا نشعر بخوف شديد من «خرازانات» المعلمين التي اختفت حاليا بعدما توعدت اللوائح المدرسية المستنيرة هؤلاء المعلمين بعقاب إذا لجأوا لعقاب التلاميذ بالضرب، بعد ثبوت أن مناخ الخوف المدرسي هو أعظم مأوى لجراثيم تربوية تتسبب في الفشل والتأخر الدراسي والتمارض والغياب والتسرب من التعليم.. الخ، وأن ما يتعلمه المتعلم بالخوف والقمع والضرب ينساه بسرعة كبيرة، فالتعليم الذي ينتصر لغرس الشجاعة العاقلة ويغيب الخوف هو التعليم الجيد والمنشود والمثمر.
وأتذكر أيضا أنني كنت لا أزال طفلا صغيرا حينما قرأت في الصحف متابعات لانطلاق أول رائد فضاء في رحلة فضائية مثيرة، وهو الرائد الروسي يوري جاجارين، فلا تزال صورة هذا الرجل في بزته الفضائية عالقة في الذاكرة، وكم كنت أشعر بخوف شديد كلما تخيلت نفسي في بزة جاجارين مسافرا إلى المجهول على متن صاروخ، فمن يخاف الأطلال من شرفة في الدور العاشر من الطبيعي أن يخاف السفر للفضاء، ولكني أبديت اهتماما كبيرا بهذا الفتح الفضائي غير المسبوق في كشكول النشاط: «الصحفي الصغير» الذي كان يتعين علينا تسليمه لمعلمة اللغة العربية، ونتسلمه قبل نهاية اليوم المدرسي، وفي هذا الكشكول كنا نلصق الصور المقصوصة من صحف ومجلات بصفحة على اليسار وأمامها على اليمين الخبر معنونا ومكتوبا ومعدا بخط اليد منقولا عن عدة صحف ومجلات كان يشتريها جدي يوميا، وحصلت على تقدير ممتاز من متابعتي الصحفية هذه، وهو ما جعلني أعرض على جدي والوالدين هذا التقدير الذي حصلت عليه، فكان تعليق جدي قوله: «أحسنت فيما عملته، لكن ليتك تحلم بأن تكون جاجارين المصري !»، غير أنني لم أحدثه عن رعبي الشديد من فكرة السفر إلى الفضاء، ولم أصادف في حياتي من يبدد هذا الخوف، وليس هناك سوى شيء واحد يجعل الحلم مستحيلا وهو الخوف من الفشل وخشية المجهول، وترك هذا الخوف يكبر في النفوس، ولا أبالغ لدى القول إن التعليم السيئ من جهة، وترك الخوف مأوى لجراثيم الفشل والتراجع من جهة أخرى هما وراء الإخفاق العربي العلمي والبحثي.. فبسبب الخوف تبخر حلمي بمحاكاة جاجارين وبقي حلم الصحفي.

بقلم : حبشي رشدي
copy short url   نسخ
20/11/2018
2135