+ A
A -
رشا عمران
يحلو لي أحيانا أن أبحث عن صور قديمة، لمراحل زمنية عديدة، منذ بدايات القرن الماضي وحتى منتصف سبعينياته، لبلادنا العربية، لا سيما بلاد الشام والعراق ومصر، لأعرف كيف كانت هذه البلاد، كيف كان أهلوها يفكرون، ومقدار تطورها ذلك الزمن، ثم الانحدارات المهولة التي بدأت تصيبها على المستويات كلها، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، أستعين أحيانا بالكتابات الروائية والأفلام السينمائية، وبعض الكتابات التأريخية والتوثيقة.
لكن تبقى الصور الفوتوغرافية أكثر حيادية، إذ لا مزاج ولا انزياح إيديولوجي لها، وليست منحازة لفكرة على حساب الفكرة الأخرى، فمهما كان المصور محترفا لا يمكنه أن يخفي تفاصيل تحيط باللقطة الأساسية التي يستهدفها، لم تكن تقنيات تحرير الصور موجودة في ذلك الوقت مثل اليوم.
ما قدمته صور أيام زمان عن بلادنا كان التالي: بلاد نظيفة جدا، أنيقة في نظامها المعماري، محاطة بغطاء نباتي أخضر ينقي هواءها، نظام سير متحضر، أماكن للسياحة والاصطياف متحضرة، صور المناطق الشعبية، تكشف ما كانت تتمتع به تلك المناطق من نظافة ومن عشوائية محببة، لا تشبه عشوائية وقتنا هذا بأي شيء، أما الصور المأخوذة من المناطق الريفية، فتظهر أريافنا شبيهة بالأرياف الأوروبية من حيث الخضرة والنظافة والعناية والخير الوفير، أما أكثر ما يلفت النظر في صور أيام زمان، هو الشكل العام لأهل تلك البلاد: الأناقة في الملبس، فالنساء غالبيتهن يرتدين الفساتين الأنيقة والأحذية ذات الكعوب العالية،، فساتين مكشوفة قليلا، دون أي مبالغة أو استعراض، كانت الأناقة والأنوثة هي الهدف لا الإغراء، ثيابهن في المنتجعات الساحلية كانت دائما مناسبة للمكان: ثياب بحر عادية، أيضا لا استعراض فيها، أما الرجال فتظهرهم الصور دائما بالبدلات الرسمية وربطات العنق، والشعر المسرح الأنيق، ستشم وأنت تشاهد تلك الصور رائحة بارافاناتهم لفرط الأناقة ونظافة الهيئة التي يظهرون بها، ولم يكن هذا يختلف، في صور الحفلات أو في الجامعات أو في الأماكن العامة، دائما هناك أناقة وانفتاح محترم، أما في المناطق الشعبية والأرياف، فاللباس هو اللباس التقليدي للمرأة والرجل، الذين تظهرهما الصور يعملان معا جنبا إلى جنب مع الجماعات الموجودة في الأمكنة، لا تظهر الصور حالة الفوبيا من الجنس الآخر التي تعم شعوبنا الآن، لا في الارياف ولا في المدن، وهو عموما ما تظهرة أفلام أيام زمان والروايات التي تتحدث عن تلك الحقبة من الزمن، وطبعا تظهر بعض الصور ردود أفعال أهل المناطق الشعبية أو الريف على مشهد سيدة ترتدي فستانا قصيرا ومكشوفة الرأس والذراعين، تظهر الصور تلك النظرات المستغربة أو المعجبة أو المستهجنة، لكن التي لا تتعرض للسيدة، حيث تبدو السيدات يمشين بثقة تامة دون أدنى خوف من تحرش ما أو اعتداء ذكوري فج.
كيف ومتى بدأ هذا الانحدار؟! كيف انقلب كل ذلك الجمال إلى قباحة منقطعة النظير، أين اختفت شوارعنا النظيفة، وكيف تم القضاء على الغطاء الأخضر؟! متى نمت فوبيا الجنس الآخر حتى باتت الأخت تخشى على نفسها من أخيها؟! من يتحمل مسؤولية كل هذا التخلف الذي وصلنا إليه؟! كيف أصبح الذكر يمتلك الحق بالتحرش باية أنثى تمشي في الشارع دون أدنى إحساس بالخوف من العقاب أو النبذ؟! آمتى أصبحت بلادنا على هذا القدر من التشوه البصري والسمعي، حتى بات مشهد تكدس القمامة في الشوارع مشهدا عاديا؟! متى تخلفت أريافنا وتريفت مدننا الكبيرة إلى هذا الحد المهول؟!
أسئلة سيطرحها أي متابع لصفحات وكتب وصور أيام زمان في بلادنا، وهو يشعر بالحسرة على ما وصلنا إليه من انحطاط بدأ مع المجتمع ولم ينته بالسياسة والثقافة، انحطاط كامل في كل شيء، انحطاط فردي وجمعي حتى في العلاقة مع الحياة بحد ذاتها.
يقينا أن للصور تلك وجها آخر، لا تستطيع الكاميرا أن تظهره، إذ ثمة مسكوت عنه دائما في بلادنا، مخيف لما يجره من عواقب سياسية ومجتمعية وأمنية، ولكن ألم يحن الوقت للإفراج عنه وإظهاره للعلن بعد كل هذا الخراب الذي تعيشه بلداننا؟!
بقلم : رشا عمران
copy short url   نسخ
31/10/2018
3561