+ A
A -
بقلم:جمال عدوي
التأمل للحاضر بكل تداعياته يسوق الخواطر صوب فضاءات الأمس.
الانتماء لجيل من الأجيال يطبع ملامح الكتابة بلونية معينة.. هكذا تبدأ بعض الخواطر عن الماضي في الاندياح.
الاستعادة للتفاصيل القديمة عبر بعض مسارات الزمن السوداني ثقافة وإبداعا وسياسة ورياضة وفنا، لها نكتها الجميلة.
أتذكر أني ضمن حوار تعود تفاصيله إلى بداية التسعينيات.. حوار على هامش مهرجان أو (موسم) أصيلة الثقافي بالمغرب، هو حوار أدبي لصفحات الثقافة أجريته من مدينة طنجة مع الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي شدد على القول إنه لا يمكن الكتابة عن أية مرحلة الا بعد نهايتها. جيلنا الذي دلف إلى مقاعد الدراسة الجامعية داخل السودان وخارجه في عام 1981 يحتفظ حتى الآن بتفاصيل لذكريات كثيرة لا يمكن نسيانها.
كنا قد انبهرنا بوجود أحزاب سياسية بكل ألوان الطيف السياسي السوداني– آنذاك– داخل الحرم الجامعي.
تدخل إلى بوابة الجامعة فتجد أن هنالك حريات لانهائية في مجال السياسة. تختار ركن النقاش الذي تفضله، ووو.
لم تمر سوى اشهر معدودة الا وتجيء (انتفاضة يناير 1982) احتجاجا على زيادة لسعر السكر في ذلك الوقت. كانت تلك آخر سنوات ما عرف في أدبيات السياسة السودانية بـ«المرحلة المايوية».. نسبة إلى تجربة (انقلاب 25 مايو 1969). الانتفاضة قدمت شهداء في الخرطوم ومدن وقرى سودانية مختلفة. تعمق شعورنا بأن الشهداء ينيرون دروب الحرية أعطتنا أفكارا قوية تصمد عبر السنين أمام محاولات تبذل من جهات مختلفة تعمد إلى التقليل من أهمية خيار الديمقراطية في العمل السياسي.
انكببنا– بالطبع- في تلك السنوات بالخصوص على قراءات متعددة في كتب السياسة والثقافة والإبداع التي ترسم واقع الزمن الإقليمي والدولي في تلك السنوات التي لا تنسى.
لم تمر سوى أعوام قليلة وأتى ما سماه البعض بالثورة وأطلق عليه آخرون اسم انتفاضة ولقبه البعض بـ«الفيضان».
كان التغيير الذي حدث في السودان القديم، بدءا من السادس من ابريل 1985 بمثابة تدشين لوعي ثقافي وسياسي جديد في الساحة السودانية.
لم يكن متصورا أن تنقضي الأيام سراعا ونفاجأ مجددا بأن واقع الحريات غير المسبوق وقتها سوف تتم مصادرته.
حين عشنا أيام الديمقراطية السودانية الثالثة اختارت الظروف بتلقائية البعض منا لينخرطوا في اختيارات الثقافة والإبداع والعمل الصحفي خصوصا.
عملت لعدة سنوات بصحيفة (البديل). أتذكر بوفاء غير مفتعل أهمية ما اكتسبته ومعي عدد من زملاء المهنة وقتها من معارف في عالمي الصحافة والفكر من الصحفي والكاتب الراحل حيدر طه ( رئيس تحرير صحيفة البديل).
كنت أفضل التوغل في فضاءات الثقافة. واخترت في أول حوار أجريته أن أحاور الفنان التشكيلي السوداني الراحل أحمد شبرين ( يناير 1986).. وكان من بين اهم ما قاله انه في الدول المتقدمة تخدم السياسة الثقافة وليس العكس.
غطيت بعدها بنحو عام أو عامين افتتاح صالة جديدة للفنون التشكيلية بمقر المجلس القومي للآداب والفنون بالخرطوم- عبر سنوات الديمقراطية الثالثة- واستمعت للمبدع الراحل شبرين وهو يقول «الأزمنة الفارغة هي أزمنة الصمت.. صمت الأزاميل والأقلام وأدوات البناء».
سرعان ما فوجئنا بتوقف هدير المطابع التي كانت تطبع كتب زمن الحرية وصحف زمن الحرية التي مهرها الشعب بالشهداء في أعوام عديدة عبر ستة عشر عاما من (انقلاب مايو).
قال لي الصديق الراحل الأستاذ عبدالواحد كمبال في الرباط (التسعينيات) إن الشاعر المبدع عمر الدوش علق بكلمة واحدة حين فوجئ بما حدث.. قال باللهجة السودانية: (ضلمت)!
إن تجارب دول عديدة في قارات العالم المختلفة تؤكد أن مصادرة الحريات وتغييب الديمقراطية يكون مفتاحا للاستبداد والفساد.
كانت قصائد شعراء (أكتوبر 1964) موحية لجيلنا. أتذكر منها كلمات ربما كتبها المبدع الراحل صلاح أحمد إبراهيم الذي قال عنه الطيب صالح بصدق أخاذ: (لا أعرف شخصا يحب السودان أكثر من صلاح). تلك القصيدة غناها المبدع محمد وردي وفيها يقول: «عهد فساد واستبداد، الله لا عاده».. ثم يأتي مقطع يقول فيه: «شعبي يا بلادي أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور».
شعراء أكتوبر ظلوا يشكلون حالة ابداعية متميزة.
في وقت ما التقيت بالمبدع الراحل (الشاعر الدبلوماسي) عبدالمجيد حاج الامين الذي كتب نشيدا في ثورة أكتوبر عام 1964 له تفرده تغنى به المبدع عبدالكريم الكابلي، هو النشيد الذي يقول فيه: «هبت الخرطوم.. في جنح الدجى.. ضمدت بالعزم هاتيك الجراح.. وقفت للفجر حتى طلع.. مشرق الجبهة.. مخضوب الجناح».
يتبع
بقلم:جمال عدوي
copy short url   نسخ
18/10/2018
1889