+ A
A -
نقرأ كثيراً في الأعمال الأدبية والمقالات السـياسـية التحليلية على السواء «تزلف إليه» ونشـعر بأن ذلك فعل سيء، وكأننا نشم رائحة النفاق، ونعرف «المزدلفة» في مناسك الحج، ومن يقرأ القرآن يجد كلمـة «زُلفى» فما علاقة هـذه الكلمات بعـضها ببعض؟ وهـل نحن على حق حيـن ندين «المتزلـِّـف»؟
الزلـف والزُلفة والزُلفى: القـُربة والدرجة والمنزلة، قال تعالى «وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى» (37 سبأ) وزلف إليه وازدلف وتزلـَّف: دنا منه، قال سبحانه «وأزلفت الجنة للمتقين» (90 الشعراء) وقيل إن «مزدلفة أو المزدلفة» سميت بهذا الاسم لاقتراب الناس إلى مِنى بعد الإفاضة من عرفات. وأصل الزلفى القربى، قال عز وجل «فلما رأوه زلفة سِيئت وجوه الذين كفروا» (27 الملك). وفي الحديث الشريف «إذا أسلم المرء فحسُن إسلامه، يكفـِّر الله عنه كل سيئة أزلفها» أي أسلفها وقدمها. والزلفة: الطائفة من الليل، وقيل: ساعات الليل الآخذة من النهار، وساعات النهار الآخذة من الليل، قال سبحانه «وأقم الصلاة طرفي النهار وزُلـَفاً من الليل» (114 هود) وطرفا النهار الصبح والعصر، وأراد بالزُلـَف المغرب والعشاء. وتزلـَّفوا: تقدموا. ومن هنا نستنتج أن «تزلـَّف إليه» تقدم إليه وتقرب منه، ولا علاقة لها بالتملـُّق والنفاق.
قيل فيما يشبه المثل «إن للباطل جولة ثم يضمحلّ، وللحق دولة لا تنخفض ولا تذلّ» ونقرأ في الكتب القديمة كثيراً «فصال وجال» وصرنا نقرأ ونسمع في الأخبار «وفرض الجيش منع التجول» فهل هذا القول صحيح؟ ومن أين أتت هذه الأفعال وما معناها؟
صال على قِرْنه صَولاً وصِيالاً وصُؤولاً وصوَلاناً ومَصالة: سطا (القِرن:الكُفء والنظير في الشجاعة والحرب، والجمع أقران، ونستعملها في أمور كثيرة لا علاقة لها بالحرب، كأن نقول: هذا الأديب وأقرانه) والصَّؤُول من الرجال: الذي يضرب الناس ويتطاول عليهم، والمصاولة: المواثبة، والفحلان يتصاولان أي يتواثبان، وفي الحديث: إنَّ هؤلاء الحيَّين من الأوْس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تصاوُل الفحلين، أَي لا يفعل أحدهما معه شيئاً إلا فعل الآخر مثله.
هذا عن صال، فماذا عن جال؟ جاب في الحرب جولة، وتجاولوا أي جال بعضهم على بعض. والتـَّجوال: التطواف، فنقول: جال في التطواف جولاً وجوَلاناً، وفي الحديث: فاجتالتهم الشياطين (أي استخفتهم) فجالوا معهم في الضلال، وهنا نتذكر «منع التجول» الذي يرد ذكره في الأخبار، وهو خطأ، لأن مصدر تجوَّل وجوَّل هو «التجوال»، وليس التجول، فالأصح القول «منع التجوال».
نقرأ ونسمع: وقال مندوب.... في الأمم المتحدة (أو لدى الأمم المتحدة) ونقرأ ونسمع: مندوب دولة... لدى الجامعة العربية. ونعرف في النحو العربي «النُدبة» كهتاف تلك المرأة العربية «وا معتصماه» ونقرأ ونسمع: وترك الجرح «ندبة» لا تزول، أو: وامتلأ جسمه بالندوب، وعندما احتلت بريطانيا وفرنسا معظم أقطار الوطن العربي اخترعوا لهذا الاستعمار اسماً مخفـَّفاً هو الانتداب، فما علاقة هذه الكلمات بعضها ببعض؟
النَّدبة بفتح الدال وسكونها (والخطأ الشائع أنها بضم النون): أثر الجرح الباقي على الجلد، والجمع ندوب. وندبه إلى الأمر يندبه ندْباً: دعاه وحثـَّـه، ولكن فعل «ندب» يعني البكاء على الميت وتعداد محاسنه، وفلانٌ مندوب لأمر عظيم، ومندَّب له، والمندوب: المستحَب. والموضع الذي يُندب إليه مندَب، ومنه «باب المندب» في اليمن.
قرأت لكاتب ظريف خفيف الظل «قالت العرب: إن على كل راغب في الزواج أن يبتعد عن ستة أنواع من النساء هن: الأنّانة، والحنّانة، والمنّانة، والحدّاقة، والبرّاقة، والشدّاقة. هل تصدقون أنني لم أفهم ولا كلمة واحدة مما سبق».
وهو على حق، فهي كلمات مغرقة في معجميتها، وتحمل قدراً كبيراً من التقعّر..
أما «الأنّانة» فهي التي تشكو دوماً من الألم وأوجاع الأمراض، ولا تكون مريضة حقاً، فيملّ الرجل منها كثرة كذبها بشأن أمراض ليست فيها، وتجدها في أتم الصحة مع الآخرين. وأما «الحنّانة» فهي التي كانت ذات زوج فتحن إلى أيامها معه، أو تحن إلى أهلها. و»المنانة» التي تكون ذات مال، لا تتوانى عن تذكير زوجها بأنها منـّت عليه عندما كان في ضائقة مالية وأعطته مالها، أو تذكّره كثيراً بمساعدة أبيها أو أحد أفراد أسرتها له. و«الحدّاقة» هي التي تحدّق فيما بين أيدي الناس، وترهق زوجها بشراء مثله ولا تشبع. و»البراقة» هي المرأة كثيرة التزين والاهتمام بمظهرها، لا لإسعاد زوجها، وإنما لاغترارها بجمالها أو إظهاره للناس، حتى يتحدث الجميع عن جمالها. و»الشداقة» وهي التي صوتها مرتفع دائماً وكثيرة الكلام والكذب، وهي تافهة لا قيمة لحديثها.
وفاته أن العرب نهوا عن نساء أخريات أيضاً منهن المرأة «عشبة الدار» فهذه المرأة ستحول بيتك إلى قبر من العفن والنتانة وعدم الاهتمام بنظافة نفسها أو أولادها. ومنهن «الرَّقوب» وهي التي ترقبه أن يموت لترثه، ومنهن «اللـَّفوت» وهي التي لا تثبت عينها في موضع، وقد يهمها أن يغفل عنها زوجها لتغمز غيره، وقيل إنها ذات الولد من زوج سابق، فهي كثيرة الالتفات إلى أولادها، حتى قد تهمل زوجها.
هذا ليس زواجاً، بل هو جولة في السوق لاختيار أفضل المعروض.
يكثر في الأخبار ورود هذا المصطلح «رأب الصَدع» والهمزة في رأب والدال في الصدع ساكنتان: رأب الصدع بين فتح وحماس، رأب الصدع بين الدولتين الجارتين، وهكذا. ما معنى هاتين الكلمتين وبالتالي ما معنى المصطلح؟
الصدْع: الشِقّ في الشيء الصلب كالزجاج والحائط وغيرهما، قال تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله» (21 سورة الحشر) وصدع الشيءَ فتصدّع: فرّقه فتفرّق، ويقال: رأيت بين القوم صدَعات، أي تفرُّقاً في الرأي والهوى. والرأب: الإصلاح، رأَب الصدع والإناء إذا أصلحه، ورجل مرأب: إذا كان يصلح صدوع الأقداح، وهو أيضاَمن يصلح بين القوم إذا اختلفوا.
ولكن للصدع معاني أخرى، وقد وردت كلها في كتاب الله الكريم، فالصدْع هو نبات الأرض لأنه يشقها فتنصدع به، وقد أقسم الله عزو جل بها في الآية 12 من سورة الطارق «والأرض ذات الصدْع، إنه لقول فصْل» وانصدع الصبح: انشق عنه الليل، والصُداع: وجع الرأس، وقد صدُّع الرجل تصديعاً، أصابه وجع الرأس. وصدع الشيءَ إذا أظهره، وصدع بالأمر صدْعاً: جاهر به وأصاب به موضعه، ومن هذا قول الحق عز وجل في الآية 94 من سورة الحشر «فاصدعْ بما تُؤمَر وأعرِضْ عن المشركين» قال بعض المفسرين: جاهر بالقرآن، وقالوا: أظهر ما تؤمَر به ولا تخفْ أحداً.
ما أكثر الصدوع في جسد الأمتين العربية والإسلامية، وليسوا قلة الذين يحاولون رأب هذه الصدوع، نرجو لهم التوفيق في مسعاهم، ولا يظننّ أحد أن الدول الغربية يهمها أن ترأب هذه الصدوع، وإن ادّعت ذلك، بل لعلها تريد لهذه الصدوع أن تزداد عمقاً واتساعاً، لأن مصلحتهم في هذا.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
11/10/2018
2694