+ A
A -
نكذب لو أننا نفينا عن أنفسنا سماعنا الغناء على الإطلاق، فرغم أن البعض يرغب دائما في إضفاء طابع الصرامة والجدية على شخصيته، إلا أنه في واقع الأمر تجده يعطي أذنه، بين وقت وآخر، لصوت غنائي يفضله وربما لأكثر من مطرب أو مطربة، وربما أيضا لكلمات أغانٍ بعينها تنطق باسم بعض أحواله وذكرياته.
ولكني أشارك البعض الرأي في أن كثيرا من الغناء العربي حاليا صار خارج السياق والذوق الجميل، ويمكن القول باطمئنان، إن قديم غنائنا العربي أفضل بكثير من جديده، وانه على الرغم من التقدم التقني الهائل للآلات الموسيقية التي تتوزع بها موسيقى الأغاني الحديثة، إلا أن موسيقى وألحان الأغاني القديمة جاذبة لأفئدة مستمعيها، وتسكن الذاكرة بجمالها، بينما كثير من أغاني هذه الأيام تدخل من أذن وتخرج من الأخرى، كما إن كلمات أغاني زمان تجعلنا نثق في أن كتابها عاشوا تجربة معانيها، بينما عدد غير قليل من شعراء الأغنية اليوم أنصاف موهوبين، أو قل إنهم يرصون كلاما ليكوّن نظما خاويا من الجمال.
تساءلت في نفسي: ترى ما سبب انحدار الأغنية العربية، حتى أن معظم المتسابقين في مضامير الطرب اليوم، يدخلون هذه المسابقات بكنز الماضي الغنائي العربي، وليس بـ«فالصو» كثير من الغناء الحديث، وبعض تفسير ذلك فيما يلي:
أولاً: إن طبائع الأمور تقطع بأنه يلي القمة قاع، وأن موجة الصعود يليها موجة هبوط، وقد كان زمن القمم الفنية بدءا من أربعينيات القرن الماضي، وحتى نهاية القرن العشرين تقريبا، لذا كان من الطبيعي أن يعقب زمن القمم زمن يتسم بمقلدي هؤلاء القمم أو الذين حاولوا أن يعيشوا في جلبابهم، في حين أن شرط الصعود للقمة الانفراد بموهبة لا نظير لها في الماضي أو الحاضر.
ثانياً: أن ثمة علاقة غير معلنة بين المد السياسي في المجتمع العربي، إذا جاز هذا التعبير، والمد الفني، وقد شهد زمن القمم الفنية في عالمنا العربي ظهور الدعوة القومية، والدعوة إلى التحرر والاستقلال، ومحاولة إطلاق تنمية جديدة في المنطقة، رغم أن كل شيء أدير بجهل وحمق، ونتفق مع بعضه ونختلف مع بعضه الآخر، ولكن هذا المد السياسي كان شريانا داعما لظهور مد فني موازٍ له.
ثالثاً: إن المجتمعات العربية كانت متسامحة في تلك الأزمنة ولا تعرف الحدود التي أقامتها السياسة، فنجدها مثلا تستمع إلى اليهودية ليلى مراد القادمة من المغرب، ووردة القادمة من الجزائر وفريد الأطرش وأسمهان شقيقته القادمين من سوريا، وصباح القادمة من لبنان، بل وحتى فهد بلان صاحب الصوت واللهجة الجبلية القبائلية، المجتمعات العربية فتحت آذانها وقلوبها لكل هؤلاء ولعشرات غيرهم بلا تفرقة أو عنصرية أو لفظ فني مقيت.
وليست هذه كل الأسباب، ولكن هناك الكثير مما يمكن قوله في هذا الصدد، لإنقاذ الأجيال الحالية والقادمة من غث الغناء الذي يزدحم به الأثير العربي.
بقلم : حبشي رشدي
copy short url   نسخ
05/09/2018
1753