+ A
A -
في عام 1993 نشر إيلي عيزرا، مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية من 1972 - 1974، الجزء الأول من مذكراته وفيه أشار لأول مرة إلى وجود عميل مزدوج على مستوى عالٍ لعب دوراً مهماً في خطة الخداع التي سبقت حرب 73. كان بمقدور البعض أن يستنتج مما ورد في هذه المذكرات، تلميحاً لا تصريحاً، أن المقصود هو أشرف مروان، صهر عبدالناصر ومدير مكتب الرئيس السادات لاحقاً، وفي عام 1999 نشر عيزرا الجزء الثاني الذي احتوى على تفصيلات أكثر وأدق.
أثارت هذه المذكرات ضجة كبرى انطلقت على إثرها تحقيقات استقصائية أفضت إلى الكشف صراحة عن اسم اشرف مروان، ورغم أن هذا الكشف جاء على لسان مؤرخ إسرائيلي يقيم في لندن، أهرون بيرغمان، فإنه سرعان ما تبين أن عيزرا هو من أفشى له بنفسه بالسر. ولأن أجهزة أمنية أخرى، على رأسها الموساد نفسه، كانت تتبنى رؤية مناقضة تماماً، مفادها أن أشرف مروان كان العميل الأخلص والأهم في تاريخ إسرائيل، وأن عيزرا اخترع حكاية العمالة المزدوجة ليغطي بها على قراءته الخاطئة لمعلوماته وتقاريره قبل وأثناء وبعد حرب أكتوبر، والتي كادت تكلف إسرائيل حياتها بالكامل، فقد بدأت الصحافة الإسرائيلية تتشكك في رواية المدير السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية وتوجه اتهاماً صريحاً بتعمد الكشف عن اسم جاسوس إسرائيلي، وهو ما يخالف تقاليد إسرائيل ويعرض أمنها للخطر. وهكذا اندلعت حرب ضروس بين الأجهزة الإسرائيلية انتهت بعرض الأمر على إحدى المحاكم الإسرائيلية التي حسمته في يونيو 2007 لصالح رواية الموساد. وهكذا أصبح أشرف مروان رسمياً، وبحكم محكمة، جاسوساً إسرائيلياً خالصاً.
حين أدرك أشرف مروان بحاسته الأمنية أن الخطر بدأ يقترب منه رويداً رويداً، وأن حكماً بالإعدام ربما يكون قد صدر عليه من جهة ما، لم يجد الرجل ما يدافع به عن نفسه أمام إلحاح الصحفيين سوى التلميح إلى أنه بصدد إعداد مذكراته التي سيكشف فيها عن كل شيء، وفجأة هوى جسده من شقة كان يقطنها بالدور الرابع من عمارة أنيقة في أحد أرقى أحياء لندن ففارق الحياة على الفور. ولقطع الطريق أمام القيل والقال أصدر مبارك تصريحه الشهير بأن اشرف مروان «كان رجلاً وطنياً قدم خدمات جليلة لوطنه»، كان بمثابة ضوء أخضر لتشييع جثمان الرجل في جنازة رسمية صلى عليه فيها شيخ الأزهر وحضرها كبار رجال الدولة بما فيها أبناء مبارك.
احتوت قصة أشرف مروان على ما يكفي من إثارة لدفع باحث وضابط سابق في الموساد، يوري بار- جوزيف، لتحري المسألة برمتها وانتهى بتأليف كتاب بعنوان: «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل». وتعود أهمية هذا الكتاب ليس فقط إلى أن مؤلفه يتبنى كلياً رواية الموساد، ولكن أيضا وعلى وجه الخصوص لأنه يتبع بدقة متناهية ويتقصى ويحلل الدلالات والدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لمختلف أطراف القصة، بما في ذلك تصريح مبارك نفسه، لذا لم يكن غريباً أن تقرر إحدى شركات السينما العالمية تحويل الكتاب إلى فيلم سينمائي تم الانتهاء منه وسيعرض يوم 14 من الشهر القادم.
عشرات الآلاف قرؤوا كتاب «الملاك»، وسيشاهد الفيلم عشرات إن لم يكن مئات الملايين، وسينكأ من جديد جراحاً عربية كثيرة لم تندمل أبداً، وربما يذكرهم بأن رئيس إحدى الدول العربية كان يتقاضى مليون دولار شهرياً من وكالة المخابرات المركزية الأميركية ولمدة عشرات السنين مقابل خدماته، وأن كراهية رئيس دولة عربية أخرى لجمال عبدالناصر دفعت به عام 1965 إلى حد التصريح للموساد بتسجيل ونقل وقائع مؤتمر القمة الذي يعقد في عاصمة بلاده على الهواء مباشرة.
لا شك أن الكتاب والفيلم يحاولان تذكير الشعوب العربية بأن أمتهم مخترقة حتى النخاع وأن الأحرى بها أن تستسلم، لكنني أعتقد أنهما على العكس سيساعدان هذه الشعوب في فهم حقيقة أن العدو الصهيوني هو الأخطر على مستقبلها وأن نهضتها مرهونة بهزيمة المشروع الصهيوني أولاً.
بقلم:حسن نافعة
copy short url   نسخ
24/08/2018
1668