+ A
A -
ثمة ميل حالياً لدى بعض المثقفين السوريين لتسفيه وتخوين كل ما تم إنجازه على المستوى الثقافي المدني في سوريا قبل 2011، أي المهرجانات والملتقيات الثقافية والفنية التي قامت على عاتق أفراد لا على عاتق مؤسسات الدولة الثقافية، وذريعة هؤلاء في التخوين أن هذه الأنشطة مرت، بالضرورة، في أروقة المخابرات السورية والأمن السوري، وهذا بحد ذاته كفيل بنسفها ونسف الهدف منها، وتخوين أصحابها وتسفيههم ووضعهم في خانة التعامل مع الأمن.
وبالتالي نسف علاقتهم بالثورة السورية من أساسها، واعتبارها نوعاً من الوصولية والمصلحة، وإلى آخر هذه الاتهامات المشينة بحق سوريين خسروا مثلما خسر كثر وطناً وأصدقاء وأهلاً ومستقبلاً، بل وحتى ربما مكاناً لائقاً للدفن في مسقط رؤوسهم.
ولأنني إحدى المتعرضات الدائمات لهذه التهم، باعتباري كنت مسؤولة عن تنظيم مهرجان ثقافي مدني لمدة ثمانية عشر عاماً، فإن شعور الأسى والخذلان يرافقانني دائما كلما قرأت مقالاً يتم فيه اتهامنا بالعمالة للأمن، ويسفه ما قمنا به من جهد استثنائي لا يعرفه إلا أصحابه، وكأن المتحدثين لا يعرفون ماذا كان يحدث في سوريا ولا يعرفون كيف تتم الأمور، وكيف يجب التحايل على كل شيء لإنجاز فعل ما.
يعرف الجميع أن سوريا بلد أمني بامتياز، محكوم بقوة الأمن، ولا يمكن لشيء فيه أن يحدث أو يتم دون معرفة الأمن وموافقته المسبقة، ثمة قوانين تؤكد ذلك، وأية مخالفة تعني التعرض للمساءلة الأمنية، والمساءلة لا تعني الاستجواب فقط، بل تعني الحرمان من الحقوق المدنية، والوظيفة، والاعتقال الطويل غالباً، غير تهمة التعامل مع العدو ووهن نفسية الأمة وتقويض أركان الدولة، وما يجره ذلك من سمعة اجتماعية لا تطال الشخص المحدد فقط، بل تتجاوزه إلى عائلته التي تنبذ اجتماعياً.
تلزم القوانين السورية شرط الموافقة الأمنية على أي تجمع لأكثر من سبعة أشخاص، لا يستثنى من ذلك الأفراح والأعراس، كل مواطن سوري يريد أن يقيم عرساً له أو لأحد أولاده كان ملزماً بالحصول على موافقة أمنية من أمن الدولة وإلا يتم إلغاء العرس ومساءلة المعني، أما الأنشطة الثقافية والمهرجات الكبيرة، فإن لم تكن هناك مؤسسة مرخصة مسبقاً تتولاها فإن وضعها أكثر صعوبة وتعقيداً، فعدا الموافقة على إقامة النشاط أو المهرجان، والتي يجب أن تأخذ من أمن الأمن السياسي حصراً، فهناك موافقات على الأسماء المدعوة للمشاركة سواء أكانوا سوريين أم غير سوريين، وهناك شرط وضع النشاط تحت رعاية رسمية، وزارة أو نقابة أو محافظة، مع ما يجره ذلك من محاولات للتدخل في شكل النشاط وتحويله إلى مناسبة للتهليل للنظام، وهو ما كنا نستطيع منعه بصعوبة بالغة، عبر عدم طلب التمويل الحكومي والاكتفاء بالتمويل الأهلي بطرق مختلفة لا مجال لذكرها هنا.
والحال، أن إقامة تلك الفعاليات كان كمن يشق الصخر بأظافره كما يقال، على أنها رغم الصعوبة والاستعصاء أحياناً، فإن الدخول في كل تلك الدائرة الوعرة كان أفضل المتاح بدل العطالة والاكتفاء بما كانت تقدمه مؤسسات الدولة الثقافية، والتي كانت مقتصرة أصلاً على نماذج محددة من مثقفي السلطة، وحولت الشأن الثقافي إلى سقط متاع، وجعلت الثقافة محصورة في جدران مراكز ثقافية بائسة، بينما كانت الفعاليات المدنية والأهلية مفتوحة على المجتمع والتشاركية مع البشر العاديين لا النخبة المختارة..
لماذا إذاً يتم تسفيه كل ذلك وتخوين أصحابه، وماذا يفيد سوريا وثقافتها التنصل من كل ما تم إنجازه قبل 2011؟ خصوصاً أن الغالبية العظمى من القائمين على الفعاليات الأهلية تلك انحازوا للثورة منذ أيامها الأولى وأعلنوا مواقف واضحة وعلنية ضد النظام؟!
سؤال يبدو أن لا إجابة له في ظل الضياع والضبابية والجنون الذي تعيش فيه سوريا والسوريون.
بقلم : رشا عمران
copy short url   نسخ
21/08/2018
2160