+ A
A -
أي ثورة أو تجربة إصلاح لا تغير ما يجري في المجال العام أو تؤثر في حياة الناس في مجالاتهم الخاصة ثورة فاشلة وتجربة إصلاح ناقصة. وتبدو كل ثورات وتجارب الإصلاح في البلدان العربية بهذا المعيار عاجزة لأنها لم تنجح في معالجة أربع صور خطيرة للارتباك في المجالين العام والخاص وفي العلاقة بينهما. وللتبسيط، فالخاص هو كل ما يتصل بالفرد وحده أو تتمتع به جماعة دون غيرها. الفرد مثلاً يملك وقته وماله وبيته وسيارته وأحلامه بل وأيضاً مشكلاته. له خصوصية PRIVACY أو حيز حصري يقرر من يدخله ومن لا يدخله. والجماعات أيضاً لها حيزها الخاص.
فالأقليات المسلمة مثلاً وإن خضعت للقوانين المدنية في البلدان التي تعيش فيها إلا أن لها مجالها الخاص فيما يتعلق بأمور مثل الزواج والميراث. أما المجال العام فلا يملكه إنسان بمفرده ومع هذا يستطيع أن يستعمله ويستفيد منه. الطرق مثلاً مجال عام ليست ملكاً لفرد، يستعملها مع أنه لا يملكها. والسلطة والدولة وموازنة الحكومة أمثلة أخرى لأصول عامة يمكن أن يديرها بعض الناس لبعض الوقت لكنهم لا يعتبرون أبداً ملاكاً حصريين لها.
لكن الخاص والعام في كثير من مجتمعاتنا العربية يعانيان من أربعة أشكال أساسية من الارتباك. أولها نهب الخاص للعام عندما تُسرق الأصول والأموال العامة لتخدم منافع خاصة، وعندما تُحتكر السلطة والقرار من قبل فئة، وعندما يُمنع حق التعبير عن الكل لتتمتع به أقلية، وعندما تتحول أملاك عامة إلى إقطاعات خاصة. وتشير علاقة النهب هذه إلى تفشي الفساد الذي لا يعيش إلا بإرباك العلاقة بين العام والخاص فيضحي بالأول من أجل الثاني.
أما الصورة الثانية للارتباك فتتمثل في انتهاك العام للخاص عندما يبدأ من يديرون السلطة العامة بالتغلغل في الحيز الخاص للأفراد متغلغلين فيه دون مراعاة لأية حقوق أو حريات. وعندما تزيد الرقابة والمتابعة للبيوت والتليفونات وتصبح أدق خصوصيات الأفراد بالذات المحسوبين على قوى المعارضة هكذا على المشاع لتكتب عنها الصحف بشكل مشوه وكأنها شؤون عامة. وعندما تتوسع الصحافة الصفراء وتتعدد منابر الإثارة ومجلات الفضائح التي تنقل وتفتعل قصصاً عن الحياة الخاصة للمخالفين في الرأي لتبعثرها وتنشرها في الفضاء العام بأسره. وإذا كان الارتباك الأول باستحواذ الخاص على العام يساعد على انتشار الفساد، فإن الارتباك الثاني بانتهاك العام لحرمات الخاص يكرس الاستبداد.
أما الارتباك الثالث فيحدث داخل المجال العام نفسه عندما تتصارع المؤسسات والأجهزة العامة مع بعضها بدلاً من أن تنسق فيما بينها. عندما يتقدم الحقد على الحب وتنتصر الغيرة المؤسسية على التعاون. عندما تضع بعض المؤسسات العامة ضغوطاً جبارة على غيرها فتخضعها لنفوذها وتوجيهاتها. عندما تخصص النسبة الأعلى من الموازنة العامة لمؤسسة عامة دون غيرها من المؤسسات. وهذا النوع من الارتباك شديد الخطورة لأنه يعكس صراع الأجهزة ويؤدي إلى ارتباك الدولة وتنافر السياسات العامة كما يهز ثقة الناس في مؤسساتهم فيعطلها ويحولها إلى عقبة أمام العمل بدلاً من أن تكون أدوات للتقدم والبناء.
وأخيراً يشيع ارتباك رابع في المجال الخاص بين الناس أنفسهم عندما لا يحترمون خصوصيات بعضهم وينتهكون حرياتهم وحقوقهم بأيديهم بعيداً عن أي تدخل من أية سلطة عامة. عندما يعتقد كل فرد أن الفضول فضيلة وأن التطفل على الآخرين حق وأن دس الأنف في شؤون الناس وتفاصيل حياتهم مسلك طبيعي. عندما يبدأ الناس في استرقاق السمع على بعضهم والتعليق بدون داع على سلوكيات وتصرفات غيرهم حتى لو تعلقت بأدق التفاصيل الشخصية. ولا يمكن في ظل هذه السلوكيات أن تتكون علاقات اجتماعية سليمة وإنما علاقات عدائية وصور متنوعة من الاختلال بين الحقوق والواجبات لتبدأ المنظومة الاجتماعية بأسرها في التفكك ليتحول الناس من مجتمع له قواسم مشتركة إلى مجرد تجمع عددي من أفراد تصادف أنهم وجدوا معاً في لحظة ما على ذات الأرض.
ومثل هذه الارتباكات الأربعة لا تحدث عادةً بمعزل عن بعضها وإنما تجري في الغالب معاً لأن التوازن سواء داخل المجال العام أو بين الأفراد وبعضهم في مجالهم الخاص أو بين المجالين العام والخاص لا يمكن أن يتحقق ويُحفظ إلا إذا وجد تعريف صحيح للمسافات المناسبة. وهذه المسافات هي ما حاولت ثورات تلو ثورات وتجارب إصلاح عقب أخرى أن تحددها دون أن تنجح. ومع أن ذلك ليس مستحيلاً إلا أن لنجاحه شروطاً لا بد منها أكثرها غير موجود الآن في البيئة العربية وأهمهما توفر وعى عام مستنير بمعنى الآخر ومعنى السلطة ومعنى العام والخاص. فبدون هذا الوعي لن تكون هناك إلا سلسلة مستمرة للأسف من الارتباكات.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
20/08/2018
2021