+ A
A -
الأحاسيسُ، كائن حى.. وأحاسيسنا بالفقد المر، تتعاظمُ برحيل عظيم، فلماذا يظل نعينا الرسمي حين يرحل عظيمٌ، باردا برودة الموت؟
اللغةُ- أي لغة- كائن حي، وما اللغة يا صحاب، إذا لم تكن حارة، حرارة العواطف والأحاسيس، في كل منعرج لقاء، أو منعرج رحيل؟
نعيتُ، النّعى الرسمي مرارا.
مات منا سياسيون كبار، وشعراء كبار، وفنانون كبار، واقتصاديون وأطباء ومهندسون وإعلاميون وزراعيون، وكتابٌ كبار، والنّعي الرسمي، كما هو، ليس فيه من دمعة حرّى، ولا عبرة، وليس فيه من لمحة تعزية شفيفة وموحية.. لمحة لا تجفف دموع الوجدان، فحسب.. وإنما لمحة تستثير فينا كل أمجاد الراحل الكبير، وما أعظم أمجاد الكبار.. الكبار!
تذكرت نعييّ للنّعي الرسمي مرارا، والرئيس الأميركي باراك أوباما، يقدم درسا، عن كيفية نعي الكبار- رسميا، وهو ينعى أسطورة الملاكمة، على مر التاريخ، محمد علي كلاي.
خصومُ الرجل الأسطورة- كلاي- بحكم لونه، وديانته، كان يمكن أن يكون أكبر من مناصريه، بحكم تاريخ أميركا مع اللون الأسود والإسلام، لكن روح محمد علي، الذي هز العالم أربع مرات، «لكن روحه الرائعة والمؤثرة والبريئة أكسبته جمهورا أكبر من خصومه»، وما بين القوسين، إشراقة من إشراقات نعي أوباما، وما النعي لو لم تشرقُ فيه شمس الحياة.. شمس الوجود؟!
الروحُ «الرائعة» و«المؤثرة» و«البريئة»، لا تموت. تظلُ ترفرف في الأعالي، وفي أخيلة الناس.. تظل تسكن الذاكرة.. وتلك الروح، هي روحُ كل أسطورة، وأرواح الأساطير، تسكن الدنيا، ومن فيها من عالمين!
الأسطورةُ، كلاي، هزّ العالم كما قلتُ أربع مرات: مرة حين تربّع على عرش الملاكمة، وأكسب هذه اللعبة شعبية عالمية، ومرة حين رفض الذهاب إلى حرب فيتنام الفظائعية، ومرة حين ظل يقفُ صاحيا مع حلم مارتن لوثر كنغ، ومع مانديلا في زنزانة الفصل العنصري، إلى يوم خروجه العظيم، وهو يشكر سجانه، ومرة حين ظل يقاوم الارتعاش اللاإرادي، بضربات ليست تحت الحزام!
أوباما وهو ينعى، قال جملة مضيئة، وموحية، وفي مؤخرة دماغه، انتصاره الذي ساقه إلى البيت الأبيض، أسود.. في جيناته كل ذلك السواد العظيم، والحلم التاريخي: حلم مارتن لوثر كنغ......... قال: انتصار محمد علي كلاي، في كل معاركه، ساعدنا أن نعتاد على أميركا التي نعرفها اليوم»!
ما أكرمها من جملة، في حق رجل كريم، عالي الروح، طيب الوجدان، مرفوع الهمة.
رجل قال بكل عزة النفس التي فيه، ذات يوم أبيض كريه، وهو يخاطب البيض: ««أنا جزء منكم لن تعترفوا به. لكنكم اعتدتم عليّ هكذا.. أسود وواثقا من نفسي ومغرورا. اسمي ليس كاسمكم. وديني ليس كدينكم. أهدافي تخصني وحدي. اعتادوا عليّ.. اعتادوا»!
جملة محمد علي، لم تبددها ريحُ العنصرية النتنة. تلك جملةٌ ما كان لها إلا أن تحدث نوعا من التحولات المذهلة. اعتاد البيض على كلاي.. اعتادوا على السود.. وحمل هذا الاعتياد- أخيرا- أوباما الأسود، إلى البيت الأبيض!
كلاي.. أيها الأسطورة.. اعتدنا عليك في الدنيا، وإلى الدرجة التي لم نعد نتخيّلُ فيها غيابك.. أنت لم تغب.. مثلك لا.. الأساطير، خُلقت لتبقى، يا كلاى!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
05/06/2016
1160