+ A
A -
عانت كتل بشرية كبيرة عبر العصور من ألوان عذاب مختلفة على يد مجموعات كونية أخرى أصغر حجماً، لكنها أكثر قوة ولؤماً.. لفترة طويلة مثلاً زادت عن قرنين عانت كتلة هائلة من عمال العالم من مظالم الرأسمالية، خاصةً عند بداياتها.. ولولا ما قدمته تلك الكتلة الضخمة من تضحيات وما تحملته من ويلات لما تمكنت الأقليات الرأسمالية حول العالم من امتلاك أصول عديدة وجني أرباح كبيرة ساعدتها على بناء إمبراطوريات مالية مازال بعضها قائماً يحمل أسماء أصحابها إلى اليوم.
كتلة كونية أخرى كبيرة تكبدت المعاناة مثلتها شعوب المستعمرات التي احتلها الأوروبيون.. وقد أطلق الأديب والثوري والفيلسوف الفرنسي المعروف «فرانز فانون» على تلك الكتلة «معذبو الأرض» WRETCHED OF THE EARTH.. وقد نشر «فانون» في 1961 كتاباً بنفس الاسم يشرح كيف تسبب الاستعمار في تشوهات اجتماعية وثقافية وسياسية ونفسية عميقة مست حياة مئات الملايين حول العالم.. ولم يخل الأدب العربي بدوره من اهتمام بالكتل البشرية المظلومة، فكان أن أصدر «طه حسين» في 1949 مجموعة قصصية لاقت اهتماماً واسعاً بعنوان «المعذبون في الأرض» تعرضت لمعاناة كتلة كبيرة من المقهورين من الفقر والمرض والظلم والسخرة وصور أخرى للاستغلال والحرمان.
ولم تُقهر وتتعذب كتلة كونية كبيرة عبر التاريخ إلا ووقفت خلف ذلك أقليات متنفذة لا تنشغل إلا بتكديس الأرباح ولو على حساب ملايين الأرواح.. فالثروة العالمية لم تكن يوماً موزعة بعدالة وإنما تميل باستمرار إلى التركز في يد أقلية.. من عصر الإقطاع إلى زمن الذكاء الاصطناعي إلا وتقف أقلية صغيرة سواء من دول أو أفراد وراء استغلال وعذاب كل كتلة كونية مقهورة.
وتتمثل أكبر كتلة كونية تكابد الاستغلال حالياً في أمواج هائلة من المُضلَّلين معرفياً.. فمع أن كتلة المعذبين في الأرض لم تتراجع بسبب ما يكابده مئات الملايين من فقر ومرض وظلم وفساد، إلا أن كتلة المضلَّلين في الأرض فاقتها حجماً.. فهذه الكتلة الأخيرة تضم كثيراً من المعذبين في الأرض مضافاً إليهم كثيراً من ميسوري الحال، بل وحتى بعض المرفهين. فالمضللون في الأرض هم من يجري تزييف وعيهم والسيطرة على عقولهم وإفساد نظم تفكيرهم حتى يقبلوا بمنظومة كونية تديرها أقلية من المتربحين النهمين الماهرين في تضليل الجماهير وتزييف الوعي.
ولم يكن غريباً في عصر هيمنت فيه التكنولوجيا الرقمية على حياة الناس أن انقسم العالم إلى كتلة كبيرة من المضلَّلين وأقلية من المضلِّلين.. فأدوات الإنتاج تخدم بالأساس من يملكها.. وقد امتلكتها أقلية مارست خداع كتل جماهيرية كبيرة إلى أن حولتها إلى كتلة من المضلَّلين.. تقدم لها الرأي على أنه معلومة حتى يظن الناس أنهم أمام حقائق فيحتشدون من بعد تضليلهم خلف سياسات كانوا سيقاومونها لو لم يكن وعيهم قد جرى تزييفه.
وعلى عكس كتلة العبيد التي حررتها ثورات سياسية أو كتلة العمال التي نالت كثيراً من حقوقها بسبب خوف الرأسماليين من انتشار الشيوعية، أو كتلة المعذبين في الأرض التي تعتمد على نفسها في التخلص من الفقر والعوز، على عكس تلك الكتل فإن معركة كتلة المضلَّلين في الأرض هي الأصعب على الإطلاق.. فالتضليل أمر قد لا يعيه الإنسان إلا بعد فترة.. كما أن أدوات التضليل التي تتحكم بها الأقليات المتنفذة لها سحر يخطف الألباب.. إنه تضليل مركب: ديني وسياسي واستهلاكي وقانوني وثقافي وإعلامي.. تضليل أدى إلى انتشار أمية الوعي والضمير في وقت تراجعت فيه الأمية الهجائية.. تضليل ازداد مع انتشار وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي ومختلف أدوات التكنولوجيا الرقمية.. وعلى عكس ما يقال عن قدرة تلك الأدوات على تحرير الإنسان من الوهم فقد باتت بالمثل سبباً في خداعه وإلهائه بأكاذيب ومعلومات ملفقة تخفي أضاليلها خلف ستار من الأرقام المفبركة والإحصاءات المغلوطة والاقتباسات الملفقة.
ومع نمو حجمهم بات المضلَّلون في الأرض خطراً على الأرض ذاتها.. وليس ذلك بمبالغة.. فوعي الإنسان مسؤول عن تصرفاته.. والمضلَّلون في الأرض أصحاب وعي مشوه ولهذا باتت تصرفاتهم معيبة.. فهذه الكتلة الكونية الكبيرة تضم مثلاً مضلَّلين دينياً يحاربون بعضهم ويدفعون بالملايين إلى حروب وصراعات عدمية يصفونها بالمقدسة.. وتضم أيضاً مضلَّلين جنسياً يفتعلون معارك لا لزوم لها بين الرجل والمرأة.. ومضللين حضارياً وقومياً يندفعون إلى حروب ثقافية ونعرات وطنية حادة وخطيرة.. إنها كتلة هائلة تمتد في كل قارة وكل دين وكل ثقافة وكل دولة.. وأخطر ما في تلك الكتلة أنها لم تدرك بعد أنه يجري توظيفها وأن من يضللونها بشعارات وأوهام وأكاذيب إنما يتربحون أكثر ولا هم لهم إلا زيادة حجمها مرات ومرات.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
23/07/2018
2202