+ A
A -
المعروف أن دستور اليابان الحالي تمت صياغته على يد الأميركيين بعد أن هزموا القوات اليابانية في عام 1945، فحرصوا على أن يتضمن ما يمنع اليابان مستقبلا من الدخول في نزاع مسلح. ومن هنا جاءت المادة التاسعة منه صريحة لجهة ضرورة أن تتخلى اليابان إلى الأبد عن الحروب، وأن تمتنع عن بناء جيشها الخاص، وألا تلجأ إلى القوة لتسوية نزاعاتها مع الآخر. وعلى الرغم من هذا، فإن اليابان تحايلت- بموافقة الحليف الأميركي- على النص الدستوري، فشكلت ما يـُعرف بـ «جيش الدفاع الذاتي» للقيام بالدفاع عن الأمة ضد أي هجوم خارجي، وللقيام أيضا بمهام أخرى مثل البحث والإنقاذ في حالات الكوارث الطبيعية. وقتها نظر الكثيرون إلى تخريجات ما بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية على أنها صبت في مصلحة اليابانيين لأنها جعلتهم يوجهون كل طاقاتهم ومواردهم نحو التعليم والابتكار والبناء والتصنيع والسلام بدلا من توجيهها نحو الحروب والتدمير. وكان من نتائج تفوقهم الصناعي والتكنولوجي معطوفا على القيم اليابانية في الولاء والطاعة والانضباط أن أضحى «جيش الدفاع الذاتي» الياباني واحدا من أفضل جيوش العالم تجهيزا وتطورا ومناقبية وانضباطا.
الأمر الآخر المعروف عند البعض هو أن الدستور الياباني من الدساتير التي مر عليها اليوم أكثر من سبعين عاما دون أي تعديل يتماشى مع ما حدث من تطورات سياسية وتغيرات اقتصادية وتبدلات اجتماعية وتحديات جيواستراتيجية منذ عام 1945، كما أنه ثاني أقصر دستور في العالم بعد دستور آيسلنده. فعدد كلماته لا يتجاوز 5 آلاف كلمة في مقابل 21 ألف كلمة كمعدل لبقية دساتير العالم، وذلك بسبب أن الدستور الياباني تطرق إلى عناوين عامة وترك التفاصيل للقانون.
على أن الحديث الدائر في اليابان، منذ فوز الحزب الديمقراطي الحر بزعامة رئيس الوزراء الحالي «شينزو آبي» بأغلبية ثلثي مقاعد مجلس النواب في انتخابات مبكرة في سبتمبر 2017، هو عن تعديل الدستور، خصوصا أن «آبي» من كبار دعاة تحويل «قوات الدفاع الذاتي» إلى جيش نظامي كبقية جيوش العالم، قادر على المشاركة في القتال مع الحلفاء خارج حدود البلاد «في ظروف محددة». وإذا كانت فكرة «آبي» هذه تحظى بتأييد غلاة القوميين اليابانيين ممن ظلوا يؤمنون بأن بلادهم تعرضت للمهانة يوم أن فرض الأميركيون عليهم دستورا تمت صياغته في واشنطن، فإن الغالبية العظمى من السكان تفضل الوضع الحالي ولا ترى في بناء جيش ياباني أمرا ملحا، ناهيك عن أنه سيتسبب في إثارة قلق دول الجوار، ولاسيما الصين والكوريتين، التي عانت كثيرا في الماضي من النزعة العدوانية التوسعية للعسكر الياباني. وبكلام آخر فإن المواجهة بين فريقين، أحدهما يعتبر الدستور الحالي مذلة وبالتالي يجب تعديله، والآخر يرى فيه سببا لما تعيشه البلاد من ديمقراطية وسلام وتقدم. وربما لهذا السبب حرص «آبي» في تصريحاته على التأكيد أنه إذا ما قبل الشعب تعديل الدستور فإنه سوف يـُبقي على المواد الدستورية التي تمنع البلاد من شن حروب هجومية.
والحقيقة أن «آبي» ظل طويلا يردد أن تغيير الدستور الياباني ليس بالأمر السهل، وكان محقا في ذلك لأن الأمر يتطلب أولا قيام مائة عضو في مجلس النواب أو خمسين عضوا في مجلس الشيوخ بتقديم إقتراح حول الموضوع، ويتطلب ثانيا موافقة غالبية ثلثي الأعضاء في كل من المجلسين، ويتطلب أخيرا طرح الموضوع في استفتاء شعبي، فإذا فاز بأغلبية بسيطة صار قانونا نافذا. لكن الأمر لم يعد كذلك بالنسبة للزعيم الياباني اليوم، بعدما صار الحزب الحاكم يحظى، للمرة الأولى، بغالبية الثلثين في مجلسي البرلمان، وهو ما يسهل عليه الإقدام على تعديل الدستور.

بقلم : د. عبدالله المدني
copy short url   نسخ
22/07/2018
2075