+ A
A -
• نعرف في اللغة اليومية فعل «رسم» وهو رسّام، أي يمارس فن الرسم، وقد استعير هذا الفعل في السياسة بمعنى «أصدر مرسوماً». ونعرف في لغة الأدب أو القريبة منها فعل «ارتسم» كأن نقول «وارتسمت له في ذهني صورة مشرقة» ويذكرنا هذا بفعل «انطبع» وهو مشتق من فعل «طبع» كأن نقول «وانطبعت صورته في ذهني» أي له في ذهني صورة ثابتة.. وفي هذه اللغة قد نقول «ترسَّم» كما في هذه الجملة «وترسم الشاعر خطى من سبقوه» أي سار على هديهم ودربهم.. وقد نعرف «الرسوم» وهي مصطلح جديد يعني بطريقة ما «الضرائب» ولكن الرسوم بالأصل ومفردها «رسم» تعني الآثار الدالة على الناس، وما زال البدو يستعملونها.
ما حاجتنا إلى أن نعرف أن «ترَسَّمَ الرَّسْمَ» تعني: نظر إليه.. وتَرَسَّمْتُ أي نظرت إلى رُسُوم الدار.. وتَرَسَّمْتُ المنزل: تأملت رَسْمَهُ وتَفَرَّسْتُهُ؟ وأن نعرف أن «الرَّوْسَمَ: كالرَّسْم» وأن الرَّوْسَمُ: خشبة فيها كتاب منقوش يُخْتَمُ بها الطعامُ، أو شيء تجلى به الدنانير، وقالوا: إن عليه لرَوْسَماً، أي علامة حسنٍ أو قُبح. وما همنا أن نعرف أن «الرَّواسيم» كُتبٌ كانت في الجاهلية؟ وأن الثوبَ المُرَسَّم هو المخطَّط؟
وما يهمنا من أن «رَسَمَ في الأرض» تعني: غاب؟ وأن «الرَّاسِم»: الماء الجاري؟ وأن الناقة «الرَسُوم» هي التي تؤثر في الأرض من شدة الوطء.. وما حاجتنا إلى معرفة أن «ارْتـَسَم» تعني كَبَّرَ ودعا، وأن «الارْتِسام» التكبير والتَّعَوُّذ؟ وأن «الرَّوْسَم»: الداهية؟ وأن «الرَّسِيم» نوع من سير الإبل وهو سريع مؤثر في الأرض؟ وأن «الرَّسُوم»: الذي يبقى على السير يوماً وليلة؟ وأن «الرَّسَم»: حُسْن المشي.
• من الأفعال الشائعة جداً في لغة الأدب والسياسة على السواء فعل «التفت» ومنه المصدر «التفات» وقد نقرأ «لفتة» فنقول مثلاً: وكانت لفتة ذكية، أو: وكانت التفاتة عابرة، ونعرف «اللافتة» وجمعها لافتات وهي اصطلاح جديد لتسمية قطعة القماش التي تكتب عليها عبارات معينة في الاحتفالات والمظاهرات، ونعرف «اللِفت» وهو من الخضار الجذرية أي التي تؤكل جذورها فقط.
ولكن ما حاجتنا إلى لـَفَتَ وجهَه عن القوم: أي انصرف عنهم؟ أو إلى أن اللَّفْت هو اللَّيُّ؟ ولفته يَلْفِتُه لفتاً: لواه على غير جهته، ولَفَتَه عن الشيء يَلْفِتُه لَفْتاً: صَرفه.. وما حاجتنا إلى أن نقرأ: فلان يَلْفِتُ الكلامَ لفْتاً أي يُرسِله ولا يُبالي كيف جاء.. والمعنى أَنه يقرَأه من غير رَوِيَّةٍ، ولا تبَصُّرٍ.. وتحدثنا عن اللِفت وهو الخضار المعروفة فهل نحتاج إلى أن نعرف أن لِفـْت الشيءِ شِقـُّه؟ وأن اللـَّـفُوتَ من النساء: التي تُكثِرُ التَّلَفُّتَ؟ وفي الحديث: لا تتزَوَّجَنَّ لـَفُوتاً، هي التي لها ولد من زوج آخر، فهي لا تزال تَلْتَفِتُ إليه وتَشتَغِلُ به عن الزَّوج.. وما حاجتنا إلى معرفة أن اللَّفُوت الناقةُ الضَّجُورُ عند الحَلبِ، تلتفِتُ إِلى الحالِبِ فتعَضُّه، فيَنْهَزُها بيده فَتَدِرُّ؟ وأن الكلمة نفسها تعني العسِر الخلـُق؟ وأن المُتلفـِّتة: أعْلى عظمِ العاتِقِ مما يلي الرَّأس؟ وأن الألفت هو القوي اليد الذي يلفت من يعالجه أي يلويه؟ وبالمناسبة تعني الكلمة نفسها الأعسر، ومثله اللـّفـّات، وهو الأحمق أيضاً.. وثمة اشتقاقات أخرى لن أطيل عليكم بها.
• يقول أحدهم مهدداً: لن أعتِّب داره بعد اليوم، ونفهم من هذا أنه لن يطأ «عتبة» بيته، وهذه كلمة فصيحة.. ونعرف المعاتبة والعتـَـب والعِتاب، ونقول «العتب أو العتاب على قدر المحبة»، أي أنك لا تعاتب إلا من تحبه إذا بدرت منه إساءة (أو ظننت ذلك)، أما من لا تحبه، فإنك تكتفي بتجاهله والابتعاد عنه ومقاطعته.. ويقول العامة «العِتاب صابون القلوب»، أي أنه يغسل القلوب، مما قد يكون لحق بها من الضغائن والأحقاد، فتصفو النفوس، وتزول أسباب المقاطعة، وتعود الأمور إلى مجاريها.
حسناً: «العتبة» التي توطأ أسفل الباب، والجمع «عتـَـب وعتبات» ألا نقول «العتبات المقدسة»؟ ولكن ما حاجتنا إلى معرفة أن «عَتـَب الجبالِ: مَراقِيها»؟ وأن «العَتـَبان: عَرَجُ الرِّجْل»؟ وما حاجتنا إلى «عَتـَبَ الفحلُ يَعْتِبُ ويَعْتُبُ عَتْباً وعَتـَباناً وتَعْتاباً: ظَلـَع أَو عُـقِلَ أَو عُـقِرَ، فمشى على ثلاثِ قوائمَ، كأَنه يقفِزُ قَفزاً، وكذلك الإِنسانُ إذا وثَبَ برجل واحدة، ورفع الأُخرى»؟ والعود آلة موسيقية معروفة، فهل نهتم بأن العيدان المعروضة على وجْه العُود، ومنها تمدُّ الأَوتار تسمى «العتـَب»؟ وعتب فلان على فلان: لامه، ومثلها عاتبه، فهل يهمنا أن نقول: عَتَبَ البرقُ عَتـَباناً: بَرَق بَرْقاً؟ وأن نقول: اُعْتِبَ العظمُ: أُعْنِتَ بعدَ الجَبْر (أي لم يعد سليماً كما كان)؟ وأن العَتـبَ: ما دَخلَ في الأَمر من الفَساد؟
وثمة كلام كثير في المعاجم القديمة عن العتـَب والعتاب والاستعتاب والعٌتبى، مما يجعل القارئ يضيع بين هذه الكلمات ومعانيها والفروق بين بعضها وبعضها الآخر.. والاعْتِتابُ: الانْصِرافُ عن الشيءِ. واعْتتبَ عن الشيءِ: انْصَرَف، واعْتتبْتُ الطريقَ إذا تركتَ سَهْلهُ وأَخَذتَ في وَعْرِه. واعْتتبَ أَي قَصَدَ، فما حاجتنا إلى هذا كله؟
• قال المسيح عيسى بن مريم، عليهما السلام: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» ونعرف الحجر وجمعه حجارة وأحجار (ومنها الأحجار الكريمة) وإذا قلنا «الحجر» وسكتنا، فهم أننا نعني الحجر الأسود، ونعرف أيضاً «حجر عليه»، أي منعه من التصرف، كأن يمنع الخرِف والعاجز من التصرف بأمواله، ونعرف «الحِجر» بكسر الحاء، أي الحِضن، ونقول: تربى في حجر عمه بعد وفاة أبيه، ونعرف «تحجّر» أي صار صلباً كالحجر، ونعرف «الحجّار» الذي يعمل في تكسير الحجارة، وثمة أسر تعرف بهذا اللقب، و«المَحجر» وهو مكان تقطيع الحجر، ونعرف من المشتقات «الحجرة» وهي الغرفة في البيت وجمعها «حجرات» وفي القرآن الكريم سورة بهذا الاسم.
ولكن! ما حاجتنا الآن إلى أن نعرف معنى القول: رُمي فلان بحجر الأرض، إذا رمي بداهية من الرجال؟
وأن أَهل الحَجَرِ هم الذين يسكنون القرى والأماكن المعمورة، وأَهل المَدَرِ أَهلُ البادِية؟ وأن «الحجر» بفتح الهاء وكسرها وسكون الجيم تعني الثوب؟ وقلنا إن «الحجرة» الغرفة في البيت، فما همنا أنها «حظيرة الإبل»؟ وإذا قلنا: استحجر القوم قد نفهم «تحجروا» ونفاجأ بأن المعنى اتخذوا حُجْرة.. وما همنا من أن الحَجرة تعني الناحية؟ ورأينا أن المَحجر مكان تقطيع الحجارة، فما حاجتنا إلى معرفة أن «المِحجر» بكسر الميم المرعى المنخفض؟ ورأينا أن «الحَجر» تعني المنع والمصادرة، فهل يهمنا أن الكلمة (بفتح الحاء وضمها وكسرها) تعني الحرام؟ مع أن المحجر (بكسر الميم) تعني ما يحيط بالعين، أو ما يظهر من نقاب المرأة وجمعه محاجر.
ورأينا أن فعل «تحجر» يعني صار صلباً كالحجر، فما همنا أن الفعل يعني اجتمع والتأَم وقرب بعضه من بعض؟ ورأينا أن الحِجر هو الحضن والكنف، فهل يهمنا أنه العقل واللب؟ وأنه الفَرَسُ الأُنثى، وعلمنا أن جمع الحجر أحجار وحجارة، فلماذا سنهتم بأن أحجار الخيل: ما يتخذ منها للنسل، لا يفرد لها واحد.

بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
29/05/2018
2469