+ A
A -
ما أن تَعْثُرَ على شبيهِكَ في زمن اللامعنى سَتُصَدِّق حتميةَ صناعة التفاهة، إنها التفاهة التي لا تَحتاج إلى مهارةِ أصابع فَنَّان كان في يوم ما يُجيدُ العزف على وتر الحياة قبل أن تَتَعَطَّل مُوسيقاه ويَفْقِدَ بالتالي مَعْناه.
مِسْكين يا زَيتون، مسكين وأنتَ تَسقط من طرفَيْ قَدَمِ حمامة السلام، فيَسقط معكَ السلام والصفاءُ، ومِن ثمة يَتَعَذَّر عليكَ البقاءُ، فلا مكان لاختلاس الأنفاس في دنيا تَكفر بالناس، ولا أمان في زمان لا يُقِرُّ بمعنى الإنسان.
فوق جسر التفاهة تَمضي أنتَ، تَمضي أنتَ الفَارُّ من ذيل الهزيمة لتُلقي بكَ أعمى في فَمِ الهزيمة، تَمضي أنتَ ساحبا وراءك فُصول العمر، كل فصل يَنوء بِسِرّ وحكاية.
يَنْحَنِي جِذْعُك مِن فرط الانقياد لأقدام الظروف اللاهثة شَوْقاً إلى أن تُسَجِّلَ بكَ أهدافا متتالية في مرمى الرغبة المستعصية. لِنُطِلَّ من نافذة التأمل على مسيرة شقاء تَحُدُّها نُقْطَتا انطلاق ولاوُصول: اللاحَيَاة واللامَوْت.
عَن رَجُلٍ غاب عنه المعنى، وغاب عنه بالْمِثل أيُّ إحساس يُذكَرُ بالحياة، يَحكي الشاعر صلاح عبد الصبور وهو يَخيطُ السطور، يَحكي عن نَكِرَةٍ، عن رَجُلٍ قادَتْه الصدفة إلى ملعب الحياة.
غير أن مِن سوء الحظ أن القَدَرَ جعل الرَّجُلَ التافه يَكتفي مُكرَها بدور الكرة الْمُلقاة، بعيدا عن أن يَحلم المسكين بأن يَلعب دورَ البطولة كلاعبٍ في الحياة، أو لِنَقُلْ دورَ متفرج بالأحرى.
وهذه بدايةُ المأساة:
«مضَتْ حياتُه كما مَضَتْ
ذليلة موطأة
كأنها تراب مقبرة
وكان موته الغريب باهتا مباغتا
منتظرا مباغتا
الميتة المكررة» (صلاح عبد الصبور، قصيدة مرثية رَجُل تافه).
بِأَيِّ ريشة سوداء يَرسم لنا صلاح عبد الصبور حدودَ لوحةِ رَجُلٍ تافِه أَتْلَفَ البؤسُ إطارَها وأمسى محتواها مهترئا فارغا من أيِّ مدلول؟!
بأيّ فلسفةِ عبثٍ يَشرح لنا صلاح عبد الصبور مسارَ إنسان لا تَختلف حالُه عن حال إنسان اليوم؟!
بأيّ رؤيةٍ سنَستوعب حضورَ إنسان أَنْهَكَه الغيابُ وألقى به قطارُ الأيام خارجَ قضبان سِكَّة الزمن الحديدي؟!
بأيّ تفسيرٍ اجتماعي سنُقْنِعُ الأجيالَ الصاعدة ونحن نُبَرِّرُ مأساويةَ المصير الذي آل إليه رَجُلٌ تَافِه استعصى وُجُودُه الحقيقي بعد أن ابْتَلَعَتْه مجاري العَدَمية؟!
وأنتَ تُعايِنُ مرثيةَ صلاح عبد الصبور، لا شَكَّ في أنكَ ستَلمس عن كثب تجليات التيار السوداوي. والسوداوية هذه لا يختلف اثنان في أنها تَمْثُل بقوة على هوامش قصيدةِ صلاح مُجَسَّدًةً في أدب كافكا الذي تَأَثَّر به الشاعرُ.
الشاعرُ يَحلب غيمةَ الإلهام يَقينا، لكننا لا نَنْفِي مدى تأثير مشاهَداتِه وقراءاتِه وتجاربه في كل ما يُحَرِّرُه مِن سطور. ولا غرابة أن يَترك لنا عَمْداً كُلُّ شاعرٍ مُقتدِر ما يَليقُ بنصوصه مِن مَواقع لا تحديد تُسَيِّجُ مساحةَ ما وراء السطر الْجَلِيّ مِنْ معنى خَفِيّ.
في زمن الذُّلّ العربي، تَعَوَّدْ على رؤية أكثر مِن حَيٍّ مَيِّت بين كل نُقْطَتَيْن مِن نُقَطِ عبورِ إنسان اليوم. الطريق إلى المستقبَل مسافةُ مقبرة، والموتُ يَضرب لكَ مواعيد بالمجان.
لكنك تَموتُ وهَيْهَاتَ لكَ أن تَموت، فكُلُّ موتٍ، يُقَدِّمُ نَفْسَه بمثابة النتيجة البديهية لحياةٍ مع وقف التنفيذ، نَجِدُه يُعلنُ نفسَه بوصفه مقدمة في محطة سَفَر لحياة موالية.
الحياة المعطَّلة واحدة، وما الموتُ سِوى نُسَخ مكررة للِاَّحياة الفارضة وجودَها بقوةٍ تواطُؤاً مع اللاَّموت.
كيف للموت بالتالي أن يُباغِتَك وهو في انتظارك على مدار الشمس التي أقسمَتْ ألاَّ تُشْرِقَ لكَ أنتَ الجاثم تحت مظلة اللاحياة؟!
كيف للحياة أن تَنتظِرَك وهي تُباغِتُك مع كل هبوب لعاصفة اللاموت التي لا تَضرُّك بِقَدْر ما لا تَنفعك؟َ!
الموتُ يُغَيِّرُ قُمْصانَه الطويلة وسَراويلَه الداخلية مع كُلّ حُلول لموسمِ حياةٍ يَتَقَدَّمُها نَذيرُ شُؤْمٍ يُوازي صرخةَ جُثَّتِها النَّتِنَة المترامية على مسافة ما بعد الموت.
والدرجة الصِّفْر للحياة مِنَ المؤكَّد لَنْ يَستعصِيَ رَصْدُها بين برزخين يمتدَّان من الحياة إلى الموت ثم مِنَ الموت في دَوْرَتِه الموالية إلى الحياة الثانية.
اليُتم، الوحدة، الغربة، العُزلة، الحرمان، النسيان، الدموع، الشرود، النفي، العذاب، الخراب، القذارة، المرارة... لِنَقُل باختصار إنه اللاَّوُجود يُسَجِّل تمامَ الوجود في مَدَنِية بِلا عقيدةِ قلب يؤمُّها الحُبّ:
»كان بلا أهل بلا صحاب
فلم يُشاركْ صاحبا، حين الصبا، لَهْوَ الصبا
لِيَحفظ الوداد في الشباب
كان وحيدا نازفا كعابر السحاب
وشائعا كما الذباب
وكنتُ أعرفه
أراه كلما رسا بيَ الصباح في بحيرة العذاب
أجمع في الجراب
بضع لقيمات تناثرت على شطوطها التراب
ألقى بها الصبيان للدجاج والكلاب
وكنتُ إن تركتُ لقمة أنفت أن ألمّها
يلقطها، يمسحها في كمّه
يبوسها
يأكلها
في عالَم كالعالم الذي نعيش فيه
تعشى عيون التافهين عن وساخة الطعام والشراب» [صلاح عبد الصبور، قصيدة مرثية رجُل تافه].
صناعة التفاهة عبقريةٌ في زمن موتِ فَنّ الإحساس، وهذا صاحبنا صلاح عبد الصبور يَدخل في حوار مع التفاهة لِيُجَرِّبَ أن يُفَصِّلَ ثوبَ الحياة على مقاس إنسان مَيِّت.
إنسان مَيِّت هو هذا الذي تَسلبه الحياةُ إرادةَ الصمود وغريزةَ المقاوَمة.. فما معنى أن تُرثِيَ جثةً جُثَثُ الأحياء الموتى؟َ!
صَدِّقْ يا صديقي أن الجثةَ لا تُصيبُها في حياةٍ إلاَّ جُثَّة.
ما أتفهَ الحياةَ في عَيْنَيْ مَيِّتٍ في عيون الناس!
بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
19/05/2018
3320