+ A
A -
لم يكن يوم الاثنين الماضي، والذي شهد الاحتفال بنقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس، بعد أن اعترفت بها الولايات المتحدة عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل اليهودية، مجرد يوم حزين آخر في تاريخ العرب، لكنه كان في الوقت نفسه يوما كاشفا للعديد من الحقائق المتعلقة بطبيعة المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظامين الدولي والإقليمي.
فعلى الصعيد العالمي، كان هذا اليوم كاشفا لجملة من الحقائق يمكن تلخيص أهمها على النحو التالي:
الحقيقة الأولى: عدم أهلية الولايات المتحدة منذ الآن فصاعدا لقيادة النظام الدولي. فمن الواضح تماما أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس يمثل خرقا لا لبس فيه لكل الأعراف والقوانين الدولية، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن التي سبق للولايات المتحدة نفسها أن وافقت عليها، صراحة أو ضمنا، والتي تعتبر القدس الشرقية جزءا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1967 وترفض إدخال أي تغيير أحادي الجانب على الوضع القانوني للمدينة المقدسة، خاصة من جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وتعتبر كل محاولة من هذا النوع عملا باطلا لا تترتب عليه أية آثار قانونية. قد يقول قائل إنه سبق للولايات المتحدة انتهاك قواعد القانون الدولي دون أن يؤثر ذلك على مكانتها الدولية أو ينتقص من قدرتها الفعلية على قيادة النظام الدولي، غير أنه يتعين الانتباه هنا إلى أن معظم الانتهاكات الأميركية السابقة كانت تتعلق بقضايا تحتمل الجدل واختلاف وجهات النظر، بعكس قضية القدس التي لم يكن وضعها القانوني محل خلاف في أي يوم من الأيام. لذا فمن المؤكد أن الولايات المتحدة باتت عقب قرارها بنقل سفارتها إلى القدس أكثر عزلة عن المجتمع الدولي من أي وقت مضى واصبح من الصعب عليها أن تدعي أنها ماتزال مؤهلة أخلاقيا أو سياسيا أو قانونيا لقيادة النظام الدولي.
الحقيقة الثانية: عدم أهلية الولايات المتحدة منذ الآن فصاعدا لاحتكار دور الوسيط في المحاولات الرامية للبحث عن تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي عموما، وللقضية الفلسطينية على وجه الخصوص. فرغم انحياز الولايات المتحدة الدائم لإسرائيل، إلا أن الحرص على وجود مسافة ما، تتسع أحيانا وتضيق أحيانا أخرى، بين مواقفها والمواقف الإسرائيلية من قضايا التسوية النهائية ساعد على ترسيخ الاعتقاد لدى كثيرين بأنها الدولة الوحيدة التي يمكنها المساعدة على التوصل إلى تسوية متوازنة ومقبولة من الطرفين. غير أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس أدى ليس فقط إلى إلغاء هذه المسافة تماما وإنما جعل الولايات المتحدة تبدو أيضا وكأنها تتبنى بالكامل أقصى مواقف اليمين الإسرائيلي تطرفا، الأمر الذي يجعل من المستحيل على الولايات المتحدة أن تلعب في المستقبل نفس الدور الذي كانت تلعبه فيما مضى على صعيد البحث عن تسوية سلمية للصراع العربي الإسرائيلي.
أما على الصعيد الإقليمي، فيمكن اعتبار هذا اليوم كاشفا في الوقت نفسه لجملة من الحقائق يمكن تلخيص أهمها على النحو التالي:
الحقيقة الأولى: وفاة النظام الرسمي العربي، ممثلا في جامعة الدول العربية. فرغم قيام جامعة الدول العربية رسميا برفض القرار الأميركي واعتباره باطلا ولاغيا والتزامها بالعمل على إسقاطه، إلا أنه ثبت بما لا يدع أي مجال للشك بأن العديد من الدول الأعضاء في هذه الجامعة تمارس سياسات مناقضة تماما لنص وروح القرارات الصادرة عن الجامعة العربية. ويكفي هنا أن نتذكر تصريحات ولي عهد السعودية في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، وقيام سفير دولة الإمارات لدى الولايات المتحدة بدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي علنا إلى مائدته في أحد مطاعم العاصمة الأميركية، أو مشاركة كل من البحرين ودولة الإمارات في سباق دراجات بمدينة القدس، لندرك أنه ما كان يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ قرارها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبنقل سفارتها إليها ما لم تحصل على موافقة مسبقة من بعض الدول العربية.
الحقيقة الثانية: تراجع تأييد الشعوب العربية للقضية الفلسطينية، إما بسبب انشغال معظمها بقضاياها الداخلية وحروبها الأهلية والإقليمية، وإما بسبب الحصار المفروض على بعضها من جانب أنظمة الحكم القمعية.
الحقيقة الثالثة: وقوف الشعب الفلسطيني وحيدا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، رغم تعذر إجراء المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المتصارعة، وإصراره على مواصلة النضال من أجل استرداد حقوقه المغتصبة.
قرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس يدخل القضية الفلسطينية، بل ومنطقة الشرق الأوسط برمتها، مرحلة جديدة ومختلفة تماما من التفاعلات الحادة، خصوصا وأنه يتواكب مع قرار الانسحاب أحادي الجانب من الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني.
بقلم:د. حسن نافعة
copy short url   نسخ
17/05/2018
3251