+ A
A -
بذرةُ البُنّ الْمُحَمَّصة سَمِّها قلبَكَ الشقِيّ ذاك الذي ستُجَرِّبُ مُكْرَهاً أن تَشرَبَ من فنجانه الْمُرّ لتتراءى لكَ الحياة بلون القهوة العربية تلك التي ستُذَكِّرُكَ، أنتَ الذي لا تَنسى، بأن الحياة لا تختلف عن سيدة الليل التي يَطيب لها أن تتسربل بعباءتها السوداء لتمتص لون الضوء في عينيك حتى تراكَ هيَ كما تَراها أنتَ.
ماذا في وسع قلبٍ منهار أن يَرى في زمن النار والاختيار أكثر من جثة حُلْمٍ، جثة حلم حكمت عليه رصاصة الزمن الجبان بالإعاقة والانكسار؟!
الراقصون على حبل الوجع، الحالِمون بخطوة إلى الوراء، الراكضون خلف قَدَرٍ طمعا في إعفاء، الماضون في اتجاه خط اللارجعة القاضون بقانون الصمت حدَّ التبدد والتلاشي، هؤلاء إمامُهم قِدِّيس صغير لا تَغيب عنه فلسفة تبرير المصير، لذلك ارتأى أن يُفَصِّلَ عقيدَته بأصابع محترقة لا يُقِرُّ بِدِينها مَنطِقُ الناس، إنه شوبنهاور، آرثر شوبنهاور ARTHUR SCHOPENHAUER.
هذا شوبنهاور الرافض لشراكة المرأة في الحياة، فأبى إلا أن يُقاطِعها مقاطعة لا تختلف عن تجنب منتوج يَرفضه المستهلِك لغياب الثقة به، ولا غرابة أن يوصَد بابُ التعقل الذي يُفضي إلى حكمة التلذذ بكعكة الحياة عندما تنطفئ شمعة الثقة في نصفك الآخَر.
صدمة موجِعة تَنزل كاللعنة على شوبنهاور قبل أن يُمَنّيه زمنُه بموعد طويل مع طفولة مدلَّلة تَعَوَّدَ فيها على وجود مَن يَهتم به ويعتني ويَتَفَرَّغ لإرضائه، فقد عَجَّلَ الرحيلُ بقول كلمته الأخيرة، يَموت والدُه موتا رحيما يَضع به حدا لحياة رفضَها جملة وتفصيلا ما أن رفضَتْه.
تَلي ذلك صدمةٌ موازية تَسرق من شوبنهاور حضنَ الأُمّ التي تَستدرجها أنانيتُها إلى مستنقَع السقوط لِتُمَرِّغ سمعتَها في تراب هوى النفس الأمَّارة بالسُّؤْدَد المزعوم موثرةً تركيع الشرف وإخضاع القيم بعد ضرب الثوابت والمبادئ عرض الحيطان لِتَنْبَطِحَ ذليلة، وتُغادرُ الفضيلةُ.
فيلسوف تيار التشاؤمية الألماني شوبنهاور عَلَّمَه الواقعُ البائس أنْ يَنقاد لسلطة الألم، مع أن الألم في الواقع يَستحق أن يُحَيّيه صاحبُنا، فلولا جرعات الألم الكبيرة لما تمكن شوبنهاور من كتابة ما كتبه من حِكَم يَصعُب أن يَقف عند عظمتِها كاتب لم يُخْتَبَر بنار التجربة المرَّة.
وأنتَ تُعايِنُ حِكمةَ شوبنهاور سَتَنْحَنِي إعجابا بقدرته على تطويع الكلمة لِتَغْدُوَ أكثر مرونة مع المعنى المشتعِل في دواخله كألسنة النار، ولا أحد يَقيناً سيَتسلل إلى أعماقه لِيُقاسِمَه لوعةَ الوعي بالمأزِق أو الإحساس بوطأة الحرمان أو الانتصار لزمن جميل شتان بينه وبين ما لم يتهيَّأ له شوبنهاور.
للتشاؤُم فلسفة لا يَحيد عنها صاحِبُنا هذا، ومَن يَكون هذا غير ذاك الذي لا يُصَفِّق لغياب الإحساس بالمسؤولية، حتى وإن كان يَنتظر منها ألا تَغيب عن العقل والوجدان.
أكثر من سبعين سنة يَعيشها شوبنهاور دون أن يَبلغ مدارجَ الحقيقة التي كان سيُؤْمِن بها لولا أنها خَذَلَتْه، وما يُعادِل نصفَ هذا العمر أَنْفَقَه في تأديب نفسه بعقوبة النفي بعيدا عن معنى دنيا الناس، فهو لا يَنتظر أن يَعرف أحدا أو أن يَعرفه أحد، لذلك فضل العزلة على الارتماء في بحر مَن يليق بها أن يَستأنس بها، بل أكثر من هذا رفض الالتحام بشريكة روحية تُعيد إليه أمجاد الحُبّ الذي فَصَلَتْه عنه أسوارُ تآمُر الحياة عليه.
الحياةُ أنثى أقسمَ شوبنهاور أن يَبيعَها، والمرأة أنثى مافتئ هو نفسُه أن يُرَتِّبَ لإبعادها عن سبيله قبل أن تَبيعَه، إلا ما ناله منها شهوةً كما يَنالُه مُراهِق أَرْعَن. لقد كان سقوط المرأة [الأُمّ] مِن عينَي شوبنهاور بوابةَ ولوج حياة العزوبة التي انتصر فيها الفيلسوف لإيمانه بلا جدوى المخلوقات النسائية كملائكة في كوكب الرَّجُل.
المرأة كانت سببا في مَوت والده، وهي دائما كانت سببا في الحرمان الذي الْتَفَّ حول عنقه كحَبل الإعدام دون أن يَجعلَه يَلفظ أنفاسَه دفعة واحدة، لكن تَمضي الأيام بعضُها يَجرّ بعضا وهي تَكتب حكاية الموت البطيء إلى أن يتوقف به قطار الحياة الحالِف ألا يتركَه إلا بعد أن يَجثم على أنفاسه.
نهايةُ مأساة في قالَب حياة شوبنهاور تَأتي بعد مسار حافل بالوقوف في مُدَرَّجات الجامعة التي زاول فيها التدريس، غير أن الدروس التي تَلَقَّاها هو شخصيا في مدرسة الحياة ستَجعل منه الطالبَ والشيخَ في آن، لأن ما يُلَقِّنُكَ إياه الزمنُ لا يُلَقِّنُكَ إياه إنسان.
كتابات شوبنهاور تُذَكِّرُنا بحال كتابات نيتشه التي لم تَكُنْ محظوظة بالانتشار في أوج اشتعال قَلَم الكاتب، لكنَّ الفرق بينهما أن نيتشه وصل صوتُه بعد موته، بينما شوبنهاور تَنَفَّسَ الصعداء قبل أن تَنطفِئ أنفاسُه، ففي أواخر حياته كان للنجاح موعد معه حتى وإن كان على مشارف قلعة الموت.
أُسُس فلسفة شوبنهاور التشاؤمية مَرَدُّها الألم والشقاء والعجز والموت وغير ذالك مما يُحَدِّقُ بك مِن شَرّ يَرفض أن يَتركك وشأنك في عالَم مبني على المادة المطلقة التي لا تضمن حيزا للسعادة التي لا يَتعدى حضورُها الحضورَ النسبي الذي يَدْفَعُ إلى وضع حَدّ لمنسوب شقاء نهر الحياة من باب البحث عن الخلاص.
مع كل ذلك الحِقد على الحياة المعادِلة للشّرّ المطلق والشقاء المطلق في عينَي شوبنهاور، فإنه لم يَلجأ إلى قرار تصفية حياته، وإنما واصل رحلةَ التمرد عليها، رَفَضَ الشقاء في كتاباته، بينما أَذْعَنَ له في الواقع، نَادَى بالانتحار في فلسفته بينما لم يَجْرُؤْ على تنفيذه.
رسائل تَتَصَبَّبُ فِكرا دأب شوبنهاور على تمريرها، وإن كانت تَسُودُها النزعةُ التشاؤمية، لكنها غنية بمواقع اللاتحديد التي تستحق منكَ وقفةً تأملية تُشَجِّعُكَ على تَذَوُّق المعنى والمعنى المضاد.
ما أَبْشَعَ الشَّرَّ حين يُغَلِّفُ العالَمَ ويَسْوَدُّ له وجهُ الحياة التي تَنْأَى بِنا عن مَلاذاتنا ومَلَذَّاتنا، لكنَّ الجميل أن يُعيدَ الفلاسفة والأدباء تَدْوِيرَ هذا القُبْح الماثل في صورة شقاء لصياغة جواهر الكَلِم التي تَطْرَبُ لها ذائقةُ صُنَّاع المعنى!

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
12/05/2018
2802