+ A
A -
- عماد البليك
غالبا ما يربط الناس بين الموسيقى والفرح والطرب، ولكن عبر التاريخ البشري كثيرا جدا ما تعلقت الموسيقى بالأحزان والموت وطقوس الجنائز، بل أن تاريخ الموسيقى حسب الميثولوجيات الدينية يكاد قد انبثق من طقس الموت لا طقس الحياة، إذ يروى أن «لامك» وهو سليل الجيل الثامن من أبناء أبو البشر آدم، ووالد النبي نوح، والذي توفي عن عمر 777 سنة كما تقول الميثولوجيا، كان هو الذي اخترع آلة العود التي تعرف على أنها أم الآلات الموسيقية.
وفي ذلك قصة غريبة ملخصها ما أورد المبرد في كتابه «الكامل» الذي ذهب إلى أن أول من صنع العود هو «لامك» حفيد آدم وأبو نوح، والذي كان له ولد يحبه حبا شديدا اختطفته يد المنون وبدلا من أن يقوم بدفنه، لأنه أحب ألا يفقد رؤيته قام بتعليقه على شجرة أمامه يراه كل يوم مع إطلالة شمس الصباح، لكن ذلك انعكس وبالاً فالجثة، تحللت مع الوقت ولم يبق منها إلاّ الفخذ والسّاق مع الأصابع، قام «لامك» بأخذ قطعة من الخشب وهذّبها وصنع منها عمودا جاعلا صدره بشكل الفخذ وعنقه بشكل ساقٍ ورأسه بشكل الملاوي مثّل بها الأصابع، والأوتار مثّل بها العروق.
ولم ترد إشارة إلى أن الخشب مأخوذ من الشجرة المعنية، ولكن الصورة أقرب لذلك. وما حدث أنه بمجرد أن انتهى من ذلك عزف عليه فخرج منه صوتٌ جميلٌ وأنشد نشيدا، وهكذا ومن الحزن وطقس الموت ولدت الحياة من جديد ممثلة في الموسيقى الحزينة التي سمعها «لامك» بحسب الأسطورة التي سردها أبو العباس المبرد.
وربما ثمة إشارة أخرى هنا إلى أن الآلات الموسيقية الأولى صنعت من هياكل الحيوانات الميتة أو التي كان الإنسان يقوم باصطيادها، وربما كان ذلك واضحا في الطبل الذي يقوم على جلد الأبقار وكذلك جلود الأفيال، وقد يتم الضرب عليه بالعظام، وهناك العظام التي تنخر لتكون مثل الناي أو الصفارة. لكن بعض الآلات الموسيقية البدائية لم تكن سوى هبة مباشرة من الطبيعة ولم يتدخل الإنسان في ابتكارها وهي على سبيل المثال القواقع البحرية التي تصدر أصواتا مثل الصفارات، كذلك القصب والعظام المجوفة التي توجد مرمية بعد موت الحيوانات وتحلل جسومها، فقط كان هنا دور الإنسان قائما على الاكتشاف.
وقد عمل الإنسان على تطوير علاقته مع الآلات سواء طبيعية كانت عمل على الانتباه فطريا لها أو تلك التي اشتغل عليها ذهنيا وإبداعيا ونقلها إلى أشكال متقدمة، ومن ثم ومع التجربة وظّف في هذه الآلات الحواس المختلفة كأن استخدم الأصابع أو اليد كاملة أو الحنجرة لتتولد الأشكال المتنوعة من الوسائل الموسيقية. وفي التجربة كذلك أن الإنسان كان قد قام بتقليد أعضاء جسمه وما تصدره من حركات وأصوات فنقلها إلى شكل آلي، بأن صنع الأيدي المصفقة بدلا من اليد الطبيعية، وهكذا. وهي علاقة الإنسان المدركة مع ما تمنحه الطبيعة بشكل عام وتحويله إلى مخترعات وآلات يستفيد منها في حياته.
إن الموسيقى هي شكل من النظام الذي يرد الألفة للأشياء، وهي ترتيب يموضع المعاني الغائبة فيردها للإحساس ويبني عالما جديدا خارج الكلمات والمعاني المدرجة، وفي هذا فإن الحزن يكون أقوى ارتباطا بالموسيقى ربما لأن الفرح على العكس لا يعطي روحا قوية لإدراك الاختلاف والفوضى في هذا العالم.. لا يعطي الإحساس بالفقد والغياب ولا السكون.
copy short url   نسخ
28/12/2016
1145