+ A
A -
بقلم
د.سعاد درير
كاتبة مغربية
ليس لدينا أجنحة لِنَطير، لكننا لا نَكفّ عن التفكير في أكثر من رحلة طيران على بساط الْحُلم، الْحُلم الذي يَبقى طريقنا إلى التغيير عندما تَبخل علينا الحياةُ بالكثير، فبالْحُلم فقط نُجَرِّبُ أن نَتمَلَّصَ من سلطة الزمن والمكان وسَوْط يَكسر الصَّوْت يُسمى قسوةَ الإنسان..
ما أجمل أن نُغادِرَ الفِراش، فِراش الواقع الجاثم! ما أجمل أن نُحَلِّقَ كالفَراش بحثا عن زهرة أخرى لا تَخرج عن قميص الحياة الذي لا يَضيق بنا! ما أجمل أن تُطَوِّقَنا أَذْرُع الزهرة لِنَمتصّ رحيقَها، رحيق الرغبة في الحياة بكل الْحُبّ الكائن والممكِن..
الرغبة في الحياة!
هل تُصَدِّقُ يا صديقي كيف تَموت الرغبةُ في الحياة حين تَخوض الرغبةُ رحلةَ نَوْم لا صَحْو بعدها؟! هل تُصدِّق يا صديقي كيف تَنكسر سيقان سرير الرغبة النائمة؟! هل تُصَدِّق يا صديقي كيف تُعلِن الحياةُ العصيان، ويُشهِر الموتُ البطاقةَ الحمراء ليَكتب عنوانَ نهاية الإنسان؟!
زهرة الحياة تَذبل، ها هي تَذبل، وفَراشُها الْمُسالِم يَشتهي جرعةً من عالَم الرحيق الحالِم، فلهذا تَجد الفَراشَ يَرحَل بحثا عن رحيق لا يَخونُه في جنةِ أرضٍ تَكفيه ولا وَخْز أشواك فيها تَكويه.. وماذا عن الحُلم؟! الْحُلم يَفُكُّ أزرارَ معطفه ويُهَرْوِلُ عاريا لِيُعانق النِّسيان مُلقيا بالجسد الموجوع في محيط أَسْيان، لكن ليس ذَنْب المحيط أن مِياهَه مالحة مادامت الروح متخمة بالجروح..
هذه لوحة رمادية تُحيل بلمسات ريشتها على المشهَد الرئيسي من حياة كاتبة تَكونُها الشمعةُ الذائبة فرجينيا وولف وهي تَكتب بحبر الدموع الكاوية قِصَّةَ الحياة التي يَتعذَّر فيها العثور على حَبْل النجاة..
فرجينيا وولف هذه ليست سوى النسخة الموازية للمرأة الْمُعذَّبة بحنينها إلى رحمة القَدَر القاسي، القَدَر الذي رَبضَتْ تحت شُرْفَتِه أكثر مما يَنبغي لِيَنظر في أَمْر إعفائها، لكن طريقَ الانتظار لا يَختلف عن ليل القلب الذي يَنْصبُ فيه المعذَّبون خيامهم، فكلاهما ليل لا آخِرَ له..
ولأن ليلَ الحزن كان أطول من صبر فرجينيا على الاستسلام لقبضة الألم، فقد رَأَتْ من غير العَدْل ألا تَتَدَخَّل، وبأقصى ما في السرعة من ممكن. لذلك حين خاب أَمَلُ فرجينيا في قدرة القَدَر على انتشالها من جحيم حياتها المريرة قَرَّرَتْ (فرجينيا) أن تتصرف لتُنهي المهزلةَ، مهزلة الحياة كما تراها بعينيها، وبالفعل تَصرَّفَتْ وغادَرَتْ حلبةَ الحياة بالطريقة التي تُناسِب نَفْسَها التي لم تَكُنْ يوما مُطْمَئِنَّة..
مَن كان يُصدِّق أن كيانا مُرهَفا سيَحصد ما حَصدَتْه فرجينيا من الريح، مع أن المسكينةَ فرجينيا لم تُفكِّرْ يوما في أن تَزرعَ الشَّوْكَ؟!
من كان يُصَدِّقُ أن تَخُونَها السُّبُل إلى نفسها الملتاعة لِتُصَبٍّرَها بأمنية تُعادل القُبْلَةَ التي تَطبعها الطفلةُ المدلَّلَة على خَدّ أُمِّها طَمَعا في صَفْح؟!
من كان يُصَدِّقُ أن تَتَناثر أشواقُ فرجينيا في مُفْتَرَق طُرُق الحياة وتَخمد جذوةُ اشتهاءاتها إلى عَرَبَة الحَظّ التي لا يَكُفُّ حصانها عن الصهيل إيذانا بدُنُوّ موعد اللقاء مع الغَدِ الهارب من حُكْم الزمن الذي لم يَرحَمْ امرأةً تَسكن فرجينيا؟!
لو كان المحبون يَصمدون لكانت فرجينيا هي الأخرى قد صمدَتْ قُبَالَةَ الْحُبّ الكبير الذي كان يكنّه لها زوجُها بِقَدْر ما كانت تكنّه هي له. ولا أَدَلّ على عنفوان هذا الْحُبّ ووَهْجِه من الرسالة التي كتبتها فرجينيا بمداد عيون القلب ودَسَّتها في يَدِ الأيام أصابعُها المرتجفة..
الأيام تراءَتْ لفرجينيا بديلا لساعي البريد الذي سيَحمل قوتَ القلوب المسكوب حرفا حرفا إلى سفينة صحراء الْحُبّ الذي يَرعاه زوجُها وقد تفانى المسكين في كَتْم صوت شهقة الرحيل محاربا طواحين هواء المستحيل..
رسالة فرجينيا لزوجها تُضْمِرُ الكثيرَ من الوفاء لِلْحُبّ الذي انهارتْ صُروحه وزالَتْ مملكتُه، غير أن أطلال الذكرى ظَلَّتْ شاهدةً على المذبحة الكُبرى التي قَطَعَتْ فيها فرجينيا رأسَ الْحُبّ، وصَلبَتْ جسدَه على سُور القلب، قَلْب زوجها الذي ظَلَّ يَمُوجُ فيه بحرُ الأشواق بين دمعة وفراق..
من القَداسَة أن تَعترف امرأة لِرَجُل بأنها فاشلة في أن تُحافظ على وجودها معه، كيف لا وهذه فرجينيا تُثمِّنُ رَجُلَها، بل أكثر من ذلك وجدناها تُثَمِّنُ محاولاته المستميتة لدفعها إلى الانعتاق من جبروت التفكير في الهروب من الحياة..
ليونارد وولف لم يَكُن زوجا عاديا، لقد شَكَّلَ بالنسبة لفرجينيا طاقةً فَيَّاضة لا يَنضب ماؤها ولا يَجفّ حنانها، والنساء أدرى بما يُمَثِّلُه حنانُ رَجُلٍ مُحِبّ يُتَوِّجُ جَميلَتَهُ أميرةً على عرش قَلْبِه..
ليونارد هذا لم يَلعبْ دورَ المتفرج السلبي في حياة فرجينيا. صحيح أن ميولاته كانت بعيدة عن سِحر الرواية التي خَبَرَتْ فرجينيا طقوسَ كتابتها، لكن ليونارد كان يَدفَع زوجته دفعا إلى الإبداع والعطاء الفكري..
فهل لهذا السبب قرَّرَتْ فرجينيا التواري عن عَيْنَيْ ليونارد الجميلتين بكل الْحُبّ الذي كان يَراها به؟!
هل كان خوفها من فقدان مصدر الحنان هذا دافعا لِتَضَعَ حَدّاً لحياتها مُغْلِقَةً بابَ الكوابيس التي كانَت تُلازمها في اليقظة؟!
هل يَكون عثور المرأة على ثروة في القلب تُسمى حُبَّ الرَّجُل لها بدايةً لحَياة ثانية يُسيِّجُها الخوفُ من العودة إلى زمن الحرمان؟!
حياتُها الصغيرة كما جَسَّدَتْها فرجينيا سرير بارد لم تُغادِرْه الرغبةُ النائمة، الرغبة في مزاوَلة الحياة.. ورَحيلُها سُقوط تَسبقه تشظيات خاضَتْها الذات (ذات فرجينيا) في مُعْتَرَك الحياة الْمُعَطَّلة، الحياة التي لا تَحتاج إلى شموع لِتَبَصُّر الطريق في ضوء اشتعال الدموع..
صاحبة النَّفَس الروائي الحاضر بقوة عانَتْ كثيرا من سطوة الماضي الكئيب، الماضي الذي بات مثل الحقيبة الآيلة لانفجار كلما حَمَلَتْها الذكرياتُ إلى قلعة الألم بما يُحَلِّقُ فيها من أشباح الأرواح الغالية التي فَقَدَتْها فرجينيا تباعا، وفي مقدمتها رُوح أُمِّهَا التي فارقَتْها قبل أن تَدورَ ساقية الطفولة..
هذه رِحلة معاناة تَنقل جوانب من حياة الشهيرة فرجينيا، فرجينيا التي تَسَلَّلَتْ إلى أغوار عالَم المرأة وثمَّنَتْ مشاعرَها المرهَفة بِنَقْلٍ أمين يُلامِسُ حُدودَها ويَقترب قَدْرَ الإمكان من ثوراتها ولحظات هدوئها..
ما أَوْحَش النَّفْس وهي تَجرّ الخُطى في دَرْب الاغتراب الوجودي بأوحال التمزقات التي تعيشُها الذات، وكلاهما يَنتهي بباب مفتوح على ظُلْمَة البحر، بحر الفِرار الذي لا مجال فيه للانتصار على غير الاستسلام!
ولأن هناك حِيَلاً للتفنن في ممارسة الحياة، فإن هناك بالْمِثل حِيَلاً أخرى لممارسة الموت الذي ما عاد شَكْلُه يُرعِبُ طُلاَّبَه. هكذا كانت فرجينيا واحدة من طُلاَّب الموت الذين خَطَّطوا لِسَفَر هادِئ إلى العالَم الآخَر..
فرجينيا عانَتْ كثيرا من وطأة حَجَر الحياة الثقيل، لذلك اختارَتْ أن تُعَوِّلَ على خِدْمَة الحَجَر وهي تَتَسَلَّح به في لحظة يَأْس لِتَجعلَ جُثَّتَها ثقيلةً بما يَكفي بل إلى الدرجة التي لا تَسمح لجسدها إلا بالغَرَق بعد أن ألقَتْ بنفسها في النهر..
قد نَتَّفِقُ يا صديقي على أن اليأسَ نار، لكن حكمةَ الصبر تَغلبه فَتُطْفِئُ كُلَّ ما استعصى..
copy short url   نسخ
23/09/2017
3027