+ A
A -
سمر الأشقر
حين دخلت المصعد قاصداً المقهى العلوي الذي وصفه لك سائق سيارة الأجرة لتطل على الأهرامات، رأيت وجهك في المرآة الحائلة هادئاً وحيادياً. يبدو أنك لم تحسن قراءته إذ هو محشور في مساحة ضيقة يحتلها بين وجوه الغرباء الذين سبقوك والذين توافدوا بعدك تباعاً خلال وقفاته القصيرة في أدوار البناية.
تتلهى بمتابعة عقارب ساعة سيدة تحتضن حقيبتها بكلتا يديها لتضمن مسافة آمنة تضيق ببطء المصعد، عضلات وجهك تتقلص من جراء أجساد تتعرق وتتماس بلا قصد، تقاوم رغبتك بالسعال لتمنع تطاير الرذاذ.
تفتنك الأهرامات وقد تلقفتك لحظة انفراج باب المصعد، ثم حلقت أنت بعيداً.
على مهلها قطرات ترذ من السماء وكذا الشمس على مهلها. رهبتك من المقابر التاريخية لونت وجهك. خوفك انعكس على سماء انفرد بها رماد الغيم بصورة فوضوية، حياتك أيضا مرت بشكل فوضوي، وستنتهي قريبا دون ذكرى تخلدك. كل ما ستتركه وراءك، شاهد قبر عليه اسمك وتاريخ خطه حانوتي بلون أسود.
تقف أمام حافة الشرفة بقامة طالت فجأة. تحس رأسك موازياً لقمة الهرم الأكبر، بل يعلوه قليلا. لم تعد تشعر بالمسافة الحقيقية التي تفصلك عن هضبة الأهرامات. بنايات الطبقة الكادحة ذات الطوب الأحمر المتآكل وقفت حائلا بينكما كندَين متقابلين. بدت البنايات كقطع الليجو التي يلهو بها الصغار، قامتك الآن جعلتك أطول من أن تنظر نحو الأسفل.
أنت.. يا المسكون بهاجس المطحونين ومعاناتهم، لم تلتفت إلى حبال الغسيل التي تشاغبها الريح، لم تستوقفك الثياب الرثة المشكوكة عليها، وهي تلوح ناقشة أسرار الفقر في هواء تتنفسه. لم يغضبك نباح الكلاب وهي تلاحق حركة الظلال.
لو كان مزاجك رائقاً لنهرتها أو رميتها بالأحجار ظاناً أن ثمة من يحتاجك ويستنجد بك، لكنك مشغول بهرمك الداخلي.
أي طوب هش هذا الذي بنيت به قامتك الطويلة. قامتك التي تقف الآن على قمة تأخذك بلا تأشيرة إلى هاوية.
كم ضاع من العمر لتدرك أن الحياة حلم شارف على النهاية؟ لست مُلزما بإيجاد إجابة الآن، اقبض على الريح بكلتا يديك لتبقى مكانك ما استطعت، ليس بوسعك العودة للوراء خفيفاً كما جئت، ما تركته وراءك لم يعد لك.
يهبط المساء وئيدا. لم تزل على وقفتك المتأملة، الضباب يتكاثف. الأهرامات بدأت تتلاشى أمام انهزام الضوء في الأفق.
تجر قدميك بتثاقل واضح. لأي اتجاه ستأخذانك هذه المرة؟ حمرة تكسو عينيك وأنت تراقب نهايات المشهد. الصمت في أعماقك يئن: ما الذي أتى بي إلى هنا؟ تأتيك الإجابة بتقنية الصوت والضوء: أتى بك وهمك الجميل.
هكذا الشعر إذن، وهم جميل. الشعراء كذلك، جميلون جداً على الورق.
تغادر المكان تاركا وراءك هرماً رابعاً، تملأه اللعنات.
تدفعك قدماك بعيداً في الاتجاه الآخر، تتجاهل رواد المقهى الذين يلاحقونك بنظرات غامضة. تشيح بوجهك عن التابوت الجماعي الذي تفوح منه روائح الموتى وتتكدس به أجسادهم.
تفتح باباً جانبياً مخصصاً للطوارئ. تهبط السلم الضيق، تهبطه بحذر لئلا تقع، بدا أن السلّم لا نهاية له، الظلمة أيضا لا نهاية لها.
الآن ثمَة شارع، وثمة ترعة ماؤها معكر، مزاجك أيضا عكره اختلاط فكرة الترعة بفكرة النهر بذهنك؟
تركل زجاجة فارغة على الرصيف. قناديل أضاءت ببياضها النخل الممتد باتجاه بعيد.
قيل لك فيما بعد إنها طيور أبوقردان المهاجرة. لو أنك لحظتها وقفت في ظل أقرب شجرة، ومال رأسك على اللحاء لنمت بعمق وإن كان وقوفاً، على ساق واحدة.
لكنك تهرع بالعودة إلى الفندق كأي سائح أنهكه التجوال في شوارع القاهرة. تدلف إلى غرفتك بصمت. تسد الباب بإحكام وتنام بعمق قبل أن تتسرب إليك أرواح ساكني الأهرامات وعظامهم.
copy short url   نسخ
20/09/2017
1213