+ A
A -
-وجدي الأهدل
«المكان» ليس مجرد ديكور مضاف إلى الرواية أو القصة. إن هذا يحدث فقط حينما يكون الكاتب أو الكاتبة في طور البدايات، وعندما تكون الكتابة مجرد هواية من الهوايات، لا عملاً احترافياً يتم إنجازه بغاية الإتقان.
كلما تقدم الكاتب في اكتساب مهارات الكتابة، توضح ذلك من خلال قدرته على الاستفادة من عنصر «المكان». ولعلها إحدى علامات النضج الفني اللافتة أن تبرز «شخصية المكان» بقوة في النص، وتجلي تأثيرها الدقيق والعميق في سلوك وتصرفات أبطال القصة أو الرواية.
في الأعمال الأدبية عالية الجودة، سوف نلاحظ أن «المكان» يلعب دوراً محورياً في بناء العمل الأدبي، بينما في الأعمال الأدبية الرديئة سوف نشعر أن المكان فائض عن الحاجة، ولا يلعب دوراً يذكر في الحبكة، وأنه مجرد خلفية للزينة أو منظر طبيعي لا علاقة له بحياة الشخصيات ومشاعرها.
أيّ عمل سردي يُراد له أن يكون جميلاً وممتعاً، لا بد أن يخلو من التفلسف المباشر والفج. ويكون الحل الفني لهذه المعضلة– أيّ الجمع بين متعة السرد ومتعة الذهن- هو منح «المكان» سلطة عليا في النص، وإحلاله محل «القدر».
نُطالعُ بين الحين والآخر نصوصاً حداثية، تُبالغ كثيراً في حداثتها، فتستغني عن عنصر «المكان» بكل بساطة، فتمثل أمامنا قصصا قصيرة وروايات «تجريدية» تم تجريدها من عنصر «المكان» فأحداثها تكاد تجري في «لا مكان»! ولكن الكاتب أو الكاتبة في هذه الحالة سوف يضطر إلى التعويض عن غياب هذا العنصر الهام بزيادة جرعة التفلسف داخل النص.. وهكذا قد يقع في المحظور، ويتحول العمل من نص أدبي إلى نص فلسفي.. وأما الخطأ الأكثر شناعة، فهو تقويل الشخصيات أطروحات المؤلف الفلسفية، وكأن الرواية تدور أحداثها في النادي الدولي للفلاسفة، وليس في إطار الحياة العامة.
وكما أن الجسد البشري بداخله روح هي التي تمنحه الحياة، فكذلك يعد «المكان» بمثابة الروح في العمل الأدبي، وهو العنصر الذي يشحن الشخصيات بطاقة الحياة.
مهما كان بطل العمل الأدبي رائعاً وذكياً، فإن الظهور الباهت لعنصر «المكان» يهدد بضمور هذا البطل، وتحوله إلى شخصية ورقية لا تملك القدرة على إقناع أحد.
لابد للكاتب من الارتباط بمكان ما، إذا ما أراد أن يكتب شيئاً أصيلاً، وعليه فوق ذلك أن يكون ارتباطه بالمكان أقوى من ارتباط الآخرين به، أيّ أن يصير عالماً بظاهره وباطنه، وحينذاك سوف يمنحه «المكان» امتيازاً نادراً، ألا هو الخلود! إنها مكافأة كبرى لأيّ كاتب أن يغدو هو أيضاً معلماً من معالم «المكان» وقطعة من تضاريسه، وعضواً من أعضائه، وشريكاً أساسياً في صنع روح هذا «المكان».
أحياناً قد ينجح الكاتب في خلق «مكان» من العدم، ثم ويالغرابة الأمر، يُصدق الناس بوجود هذا «المكان» الخيالي، ويفسحون له مكاناً حقيقياً في جغرافيتهم!
هذه واحدة من أعظم معجزات الأدب: يقوم أحدهم باختلاق مكان من العدم، ثم وبمصادفات لا تصدق، يشق هذا المكان المتخيل طريقه إلى أرض الواقع، ويصير أكثر رسوخاً من الأماكن الأخرى، وكأنه قد وجد منذ قديم الأزل.
copy short url   نسخ
19/09/2017
1695