+ A
A -
في بداياتي الأدبية حدث معي موقف لن أنساه ما حييت، ولعل التذكير به قد يكون مفيداً للأدباء الشبان الذين يتلمسون طريقهم في دنيا الأدب، فقد نشرتُ في مجلة أدبية مرموقة عام 1996 قصة قصيرة عنوانها «أنفي المزعج» لفتت إليّ الأنظار بقوة.. القصة نشرها الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح، وأشاد بها الشاعر الرائي عبدالله البردوني في أحد مجالسه الخاصة. ويمكن القول إنها أول قصة قصيرة تُقرأ لي على نطاق واسع. وأيضاً بسببها واجهتُ للمرة الأولى ظاهرة «قطط الثقافة السمان»! وقتها كنت شاباً غراً ومغفلاً بعض الشيء – وما زلت كذلك على ما يبدو- والتقيتُ بناقد أدبي شهير في أحد الملتقيات الثقافية، فاستجلب الانتباه بقوله إن قصتي المنشورة في تلك المجلة مسروقة من رواية «العطر» للروائي الألماني (باتريك زوسكيند)! لقد دافعتُ عن نفسي وأكدت أنني لم أقرأ تلك الرواية، فضحك الناقد ضحكة شريرة وغمز بعينه قائلاً: «بصمات زوسكيند واضحة في نصك».
ينبغي الاعتراف أن كلامه قد ترك أثراً سلبياً شديد الوقع في نفسي، وبالأخص حين تواترت إليّ الأنباء بأنه يُذيع «نميمته النقدية» في كل مكان واصفاً إياي باللص المحترف للنصوص الأدبية.
من جانبي سعيتُ إلى قراءة رواية «العطر» لأرى من أين استنتج ذلك الناقد الذي يحمل شهادة أكاديمية في الأدب، ذلك التشابه إلى درجة توجيه الاتهام بالسرقة الأدبية.. بعد جهد جهيد، تمكنت من الحصول على نسخة مصورة من رواية «العطر» فقرأتها وأنا أرتعد خوفاً من أن أكون قد سرقت شيئاً من أفكار السيد (باتريك زوسكيند). ولكن لحسن الحظ تبين لي أن رواية «العطر» رواية عظيمة، بل واحدة من أعظم روايات القرن العشرين، ولا يمكن مقارنتها على الإطلاق بنصي القصصي الهزيل في فكرته ولغته وسذاجة حبكته. وهكذا فإنه لم يكن هناك أيّ تشابه، فأين الثرى من الثريا، وحمدت الله أن قصتي المتواضعة لا تمت بصلة لتلك الرواية البديعة.
بعد سنوات صادفت ذلك الناقد، وذكَّرته بما اتهمني به، وقلت له إنني قد قرأت رواية «العطر» فلم أجد أيّ تشابه بين رواية العطر وقصتي، فعقد حاجبيه وقال دون أن يرف له جفن: «من يدري ماذا فعلت؟؟ فأنا لم أقرأ رواية العطر». يا للهول!! لقد كدت أصاب بعقدة نفسية من الكتابة بسبب كلماته المسمومة، وهاهو الآن يُقر بكل برودة أعصاب أنه لم يقرأ أصلاً الرواية التي اتهمني بسرقتها! لعلي بقيتُ يوماً كاملاً واقعاً تحت تأثير الصدمة من هذا الاستهتار اللامسؤول في إصدار الأحكام جزافاً باسم «النقد الأدبي» المستند على شهادة أكاديمية كرتونية.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، فإنني أدرك أن أمثال هذا الناقد الذي يملؤه الحسد كثيرون، وعلينا ألا نتوقع منهم إنصافاً، لأن ثمة نوازع شتى تحركهم ذات اليمين والشمال، قد يكون منها الانتماء الحزبي أو المناطقي، أو جنس المبدع، أو المظهر الخارجي كصباحة الوجه أو أناقة الملبس الخ.
يا ترى كم من المواهب الرائعة في الكتابة قضت عليها «القطط السمان» المنتشرة في ساحاتنا الأدبية؟ من المستحيل أن نعلم حجم الضحايا، ولكن شحة الإبداع في بلد ما أو خلال فترة ما قد ينبئ عن الأضرار التي تسببت بها «قطط الثقافة السمان».
copy short url   نسخ
08/08/2017
2312