+ A
A -
بقلم - باسم توفيق




أن تجمل المدينة وتدهن حوائطها ثم تضع في كل ركن منها بعضاً من التاريخ.. مثل تمثال.. نصب تذكاري.. لوحة شرف.. قوس نصر.. هذا ما يعرف بتبويب التاريخ المكاني.. أي وضع علامات للتاريخ في أماكنها الأصلية، وكان فالتر بنجامين في مقالاته النقدية التي كتبها عن مدن مثل باريس يؤكد دائما أن اللون هو ما يعطي للمدن نكهتها الخاصة..


وهذا يقترب كثيرا لما نتحدث عنه كطرح مغاير لما عرفناه عن التاريخ، وبمعنى أدق الأبعاد المكانية للتاريخ ومدى تأثيرها في تشكيل روح المدن وما دور الفن في هذه القضية، كذلك علينا أن نبحث مدى المشكلات والأزمات السياسية والصراعات الفكرية بين الكيانات الإقليمية والتي قد تنشأ على خلفية صدق رواية الحدث التاريخي من عدمه مما يؤدي لبعض الشوفينية والتمييز العرقي.. الحقيقة أن هذا كله يعتبر إحدى أهم قضايا التاريخ وتكوّن المجتمعات العمرانية سواء بمعناها الحديث أو القديم وهناك في الحقيقة أمثلة كثيرة ومتعددة لكننا قد نجد أن المدن الناشئة أو بمعنى أدق المدن التي تعيد بناء ذاتها سياسيا وحضاريا وإقليميا هي المثال الأكثر وضوحا على ما نقدمه من عرض لقضية تعتبر جزءا من صلب النقد التاريخي في هذا الصدد.
علينا أن نبدأ بداية غريبة وطريفة في نفس الوقت حتى نستطيع أن نأخذ القارئ للفكرة دون عنت التفكير في نظريات، فأنت مثلا إذا كنت تصحب مرشدا سياحيا في مدينة سكوبيه عاصمة مقدونيا فربما تتعجب حينما يقف بك أمام أكبر معالم المدينة تمثال عملاق من البرونز فوق عمود حجري مزين بمشاهد لمعارك قديمة وأنت تعرف حتى وأن لم تكن زرت المدينة قبل ذلك أن هذا التمثال للقائد التاريخي الإسكندر المقدوني الملقب بالأكبر والذي يظهر بكل مميزاته وملامحه التي لا تخطأها العين، لكن المرشد يفاجئك وبصيغة فيها الكثير من التهكم وربما بعض الحسرة أن هذا ليس تمثال الإسكندر بل هو تمثال المحارب فوق الحصان.. وإمعانا في هذه الصيغة الساخرة تجده وعلى امتداد الجسر الذي يعبر نهر الفاردار الذي يشق مدينة سكوبيه يشير إلى عمود آخر في ملابسه الهللينية المميزة ويقول لك إنه تمثال والد المحارب فوق الحصان.. في محاولة ساخرة منه أيضا أن يلفت نظرك أنه فيليب المقدوني ملك مقدونيا القديمة ووالد الإسكندر الأكبر لكن دون أن يذكر ذلك فعليا.. ثم يبتسم ابتسامة أكثر سخرية حينما تسأله عن تمثال تلك السيدة الشامخة في الزي الهلليني والتي لها عمود خاص عليه تمثالها وفي أسفل العمود مجموعة نحتية لها في حالات متعددة وهي ترعى الطفل الصغير ويقول لك ساخرا – وهذه بالطبع أنجلينا جولي – في إشارة منه أنها الملكة اوليمبياس والدة الإسكندر وسيدة البلاط المقدوني وحيث جسدت شخصيتها في الفيلم الشهير عن الإسكندر الممثلة الأميركية الشهيرة أنجلينا جولي.. والحقيقة أن هذا ليس محض هراء أو تندر من المرشد أو أهل مقدونيا المتعلمين لكنه مقصود تماما والسبب في الحقيقة غريب لدرجة قد تبدو للقارئ دربا من الجنون والصبيانية في القرن الواحد والعشرين، حيث حذرت اليونان دولة مقدونيا مرارا وتكرارا أن تدعي نسب الإسكندر لها مع أن هذه حقيقة تاريخية واضحة وضوح الشمس بل وقدمت مذكرات عدة بشكل رسمي للهيئات القضائية والدولية حتى تكف مقدونيا عن الظهور بمظهر أرض الإسكندر وتكف أيضا عن صناعة تماثيل له وحتى يبدو كرمز تذكاري للعاصمة الحالية، ومن ثم حاول المقدونيون الالتزام بشكل هزلي بهذه التوصيات التي هي جادة تمام الجدية من قبل دولة اليونان حيث تصف اليونان مقدونيا بأنها ليست مقدونيا الحقيقة بل أن مقدونيا الحقيقة هي ذلك الإقليم الذي يضم مجموعة من المقاطعات الصغيرة التي على رأسها ثيسالونيكي – سالونيك – والحقيقة أن كلام اليونان يدحض قضيتهم فلقد كانت مقدونيا الحديثة هي أيضا متاخمة وضمن هذه الأقاليم، والحقيقة أن المكتشفات الأثرية لا تعضد كلا الطرفين أي اليونان ومقدونيا الحديثة والسبب في ذلك هو عدم اكتشاف أطلال مدينة بيللا عاصمة مقدونيا القديمة والتي كانت مقر البلاط المقدوني لكن أيضا مقدونيا الحديثة لديها الوجاهة في طرحها التاريخي، وقد يكون سبب هذا الاحتقان التاريخي والعرقي هو أن اليونانيين وبعد مرور 2300 عام على رحيل الإسكندر لايزالون لا يتقبلون حقيقة أن هناك ملكا من إمارة ليست هللينية حقيقة ولكنها هللينية ثقافة وهو أيضا أقرب للشرق منه للغرب وهو أي فيليب الثاني وولده الإسكندر كانوا ملوكا لا يتبعون فكرة البوليس الديمقراطي أي المدينة الدولة مثل أثينا وجيرانها ومن ثم كانت صدمة أن يتحول هذا الملك الشرقي لغول يبتلع الدويلات اليونانية الواحدة تلو الأخرى ويتحكم في مصائرها سياسيا ومن ثم تريد أن تبدو القصة أنه ملك يوناني سيطر على الدويلات اليونانية وليس ملكا مقدنيا احتل الدويلات اليونانية.. ولعل هذا يفسر كيف أن اليونانيين منذ العصور الوسطى بدؤوا في تحويل لقب الإسكندر من الإسكندر المقدوني إلى الإسكندر الأكبر حتى ينقطع كل نسب له بمقدونيا، وهذا ما لا تغفله مصادر كثيرة.
وبدون الدخول في جدل من أكبر جدليات التاريخ حول نسب الإسكندر الملتبس وسيرته الغامضة علينا أن نؤكد أن التاريخ يتحكم في كل أنواع الصراعات حتى ولو بشكل خفي دون أن ندرك ذلك، وهذا ما يجعل أهل مقدونيا يتندرون على التماثيل بهذه الطريقة التي لا تخلو من مرارة، وفي مقابل ذلك نجد أن المدينة تحتفي كثيرا بنسبها العثماني منذ العصور الوسطى والذي دام ما يقرب من خمسمائة عام وحتى دخولها في زمرة الأقاليم اليوغوسلافية، ومع أن مقدونيا جاهدت كثيرا دون الذوبان في الكيان العثماني وكان فيها مناضلون كثيرون قوميون مثل بيتر كاربوش المناضل القومي في القرن التاسع عشر، لكن بالرغم من ذلك فإن المقدونيين يتباهون بالفترة العثمانية أيما تباهي وقد يكون أحد أسباب ذلك أيضا العداء التاريخي بين تركيا واليونان لكن يظل التباهي بهذا الكم الكبير من الآثار والمخلفات والعرقيات أحد محاور الرواية التاريخية والأدب الشعبي بل والتمييز التاريخي في الضمير المقدوني وهذا ما يجعلك لا تستغرب هذا الكم الكبير من المساجد الذي يملأ الأقاليم المقدونية والجبال والوديان جنبا إلى جنب مع الكنائس البيزنطية بل ويتبع نفس أسلوب العمارة البيزنطية التي أخذها العثمانيون بحذافيرها من البيزنطيين وأحلوها طرازا رسميا لمساجدهم ودورهم العامة، وحتى في الأقاليم التي لا تجد فيها كثافة للسكان المسلمين الذين يشكلون 23 % من سكان مقدونيا تجد اهتماما كبيرا بالمساجد القديمة مثل هذين المسجدين الكبيرين في إقليم بيتولا والتي تعتبر إحدى أكبر حواضر مقدونيا على الرغم من أنها لا توجد فيها جالية مسلمة وحتى أنهم يتباهون بأن صاحب ثورة الحداثة في تاريخ تركيا مصطفى كمال أتاتورك قد درس في مدرستها العسكرية ووقع في حب إحدى بناتها بل وتجد العديد من آثاره في المتحف الحربي في بيتولا.
وهكذا تجد تناقض التاريخ حيث تسقط مقدونيا بمرارة سيرة الإسكندر في محاولة لعدم إثارة غضب اليونان وتحتفي بحقبتها العثمانية والإسلامية أيضا على الرغم من أنها دولة مسيحية غالبية سكانها من الأرثوذكس، ويتملكك العجب في هذا الشغف الذي يشرق بنور سحري فوق وجه المرشد السياحي حينما يقول لك الجملة الشهيرة التي قالها داوود باشا لابنة السلطان أو حاكم مقدونيا في القرن السادس عشر حينما قال لها – سوف اجعل النجوم تسطع فوق جلدك وتتناسى القمر – ولعل القارئ سوف يجدها محض غزل مبالغ فيه لكنها كانت رغبة حققها داوود باشا صاحب أشهر حمام في السوق القديم بسكوبيه وكان قد وقع في عشق ابنة حاكم مقدونيا العثماني وكان داوود باشا من أغنياء مقدونيا وحتى يغزو قلب ابنة الحاكم قال لها هذه الجملة وبنى حماما في السوق الكبير وحينما اكتمل دعا إليه ابنة السلطان بعد غروب الشمس لتستحم هي وجواريها وكان قد جهز قباب الحمام بكوات أو فتحات على شكل نجوم ولما أكملت طقوس الحمام كان ضوء القمر المكتمل قد سطع من خارج القباب ودخل عبر الفتحات النجمية، وهكذا وفى داوود باشا بوعده ووقعت في حبه الفتاة وتزوجها بل ومنحه والدها ولاية أكبر أقاليم مقدونيا فازداد ثراء.
هنا تظهر بينية التاريخ فبينما في احتفاء المقدونيين بالحقبة العثمانية ومراوغتهم للتعسف اليوناني في سرد التاريخ وتثبت هنا نظرية أن الصراعات كلها في عالمنا أساسها نظريات تاريخية وفي باطنها تظهر العرقية والتحزب الديني وكل آليات الصراع بين القوميات بعضها البعض، ولكننا أحيانا نجد أنها معظمها نظريات عبثية كتلك الصراعات بين العرب واليهود التي تبدو في ظاهرها دينية لكنها في حقيقتها صراعات الصدارة السياسية بين السامية واللاسامية رغم عدم ثبوت اختلاف العرق وهذا يمثل عمق العبثية في الصراع من قبل الصهاينة.
ختاماً نجد أن دولة مثل مقدونيا الحديثة تأخذ من التاريخ منطلقاً رائعاً ومنطقياً لبناء حداثتها وهذا يعتبر وازعاً وحافزاً للأسف لم تدركه معظم الأقاليم في وطننا العربي فنجد أن مدينة مثل سكوبيه اختار القائمون عليها الفن كمنطلق للمجد فلن يتخيل القارئ أنه في محيط أقل من 1.5 كيلو متر مربع أي أقل من كيلو مترين مربع يتركز أكثر من 50 عملا فنيا نحتيا ضخما بعضها يصل لدرجة العملقة ونصب تذكاري يخلد الحقب التاريخية المختلفة من تاريخ مقدونيا بداية بالفارس المحارب فوق الحصان أو الإسكندر وحتى مناضلي العصر الحديث في الفترة الشيوعية مرورا بالقوميين في القرن التاسع عشر أمثال بيتر كاربوش، ولعلنا لن نبالغ إذا قلنا إن بناء المدن هنا كنظرية جمالية أكثر من مكتمل وعلينا الاقتداء به حيث رصدت اللجنة القائمة على بناء سكوبيه الحديثة أكثر من 200 مليون يورو للأعمال الفنية فقط بحيث تحولت وسط مدينة سكوبيه رويدا رويدا لمتحف مفتوح يتعدى بساطة العرض للعجائب والمعجزات الفنية.
copy short url   نسخ
03/08/2017
1684