+ A
A -
جاء خطاب سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر، في الاتجاه الذي توقعناه من انكسار الأزمة الخليجية، وتحوّلها إلى مرحلة التحييد المتوتر، لكنه توتر منضبط بناءً على مجمل الموقف الدولي الإقليمي، وخلاصات النتائج التي اكتشفتها كل الأطراف، سواءً كانت سعيدة بذلك أو مغضبة، وبقاء الحملات الإعلامية من دول المحور والرد القطري عليها سيستمر، لكن لن يمنع ذلك جهود الوساطات، وبقاء فرص أي قرار بوقف التصعيد الإعلامي والرد عليه.
وقبل أن نستعرض مرحلة التحييد المتوتر، التي سيعيشها الخليج العربي، في ظل فقدان توازن كبير، يسدده الخليج لصالح إيران وسوق المصالح الدولية، تسبب به قرار دول المحور تفجير الأزمة الخليجية، نحتاج أن نقف بعض الوقفات مع خطاب الشيخ تميم بن حمد، لنفهم بعض الأبعاد الاستراتيجية له:
1- الخطاب ركّز على الحديث إلى الشعب والمتضامنين من المقيمين والعرب والإنسانية خارج الحدود، وكثّف بعده الوطني الاجتماعي، كركيزة أساسية.
يُفهم منها بوضوح أن قرار قطر، سيتجه إلى صناعة الوطن الجديد، مستفيداً من الوحدة الاجتماعية الصلبة، التي حوّلت الشعب القطري بادية وحاضرة، إلى قوة مجتمع مدني موحدة بمستوى غير مسبوق في تاريخها الوطني.
وأظن أنه ظاهرة خليجية جديدة للتوثيق، حين تتعرض الدولة لتهديد وجودي، وإن كان الشعب الكويتي مثّل هذه الروح بعد فجر الثاني من أغسطس 1990.
2- هناك الكثير مما يمكن فهمه من مقاصد الأمير المركزية، لصناعة العهد الجديد لقطر، للعبور إلى مرحلة مشروع النهضة، لكن لا يسعنا هنا تفصيل هذه الرسائل، فتركيزنا اليوم على البعد الاستراتيجي الجديد للمنطقة في مرحلة التحييد.
3- كانت هناك روح تحدٍ أخلاقية صامدة بقوة، أمام الإساءات الشخصية والطعن في الأعراض، الذي نال الأسرة الأميرية شخصيا، والإساءات التي طالت المجتمع القطري، وهي روح كانت تُسابق كلمات الأمير، وواضح للغاية وصولها إلى الشعب القطري، والمواطنين العرب، وخاصة من أبناء الشعب العربي في الخليج.
4- حدد سمو الشيخ تميم منصة التلاقي بحزم واضح، وأعلن استعداد قطر لمرحلة القطيعة التي هدد بها الوزير قرقاش، كرسالة كُلف بها قبل تراجعه، وأبدى الأمير استعداداً كاملاً لخوض المرحلة، لكن عبر تحفيز الإنسان القطري لمهمة صناعة المستقبل الجديد، وفي ذات الوقت فتح مجال التسويات، خارج أي تلميح بإخضاع قطر عبر مطالب القائمة، لكسر سيادتها وكرامتها الوطنية.
5- من هنا تكون مرحلة قائمة المطالب واتفاق 2014 قد طُويت، ويتم التعامل مع التسويات بناء على احترام الاستقلال القطري القومي، الذي ربطه سمو الشيخ تميم مرة أخرى بسياق فكر الحضارة الإسلامية، والإيمان بأن مصدر الإرهاب ليس ما يروج له الغرب المنحاز ومشروع أبو ظبي الأيدلوجي، في اتهام (الإسلام السني).
وإنما هناك معايير سياسية وأخلاقية وحقوقية، واحتلال ومظالم تضطهد المجتمعات، كمحفّز رئيس للإرهاب، بمعنى أن الشيخ تميم أكد مواقفه التي تهاجمه بها دول المحور، لكن وفق مبدئها الأصلي وليس الذي خُلط باتهامات غير صادقة، وأعلن من جديد دعمه لفلسطين ومقاومتها.
6- الباب الذي أكد بقاءه سمو الأمير هو باب الوساطة الكويتية، والتسويات الثنائية على قاعدة مصالح مشتركة، وأضرار تعتقد هذه الدولة أو تلك أنها تؤثر عليها سلبيا، فتقدم أدلتها بالمفاوضات المباشرة، وليس محاصرة الدولة والإنسان في قطر.
7- أمام كل هذا يعتبر خطاب الأمير إيذانا، بالعهد السياسي الدولي الإقليمي الجديد، الذي سيبدأ من الخليج العربي بل بدأ، بعد إقرار مسقط والدوحة مشروع التكامل الاستراتيجي، والذي سيتوسع اقتصاديا، وقد يسحب كامل تقاطعاته من أسواق دبي ومرافئها تدريجيا.
8- كما أن تواجد القوات التركية سيتعزز بحسب الاتفاق، وعلاقة تركيا لها بُعدٌ خاص جداً، ونلاحظ أن الأمير وجه الشكر الخاص لها لموقفها والرئيس أردوغان، وأيضاً لفرز التقاطع الاضطراري الذي دفعت له دول المحور قطر، للاستفادة من متنفس إيران.
فذاك قرار اختياري وهنا واقع اضطراري ولذلك لم يسمّي الأمير إيران، وهي قضية حساسة جداً، فأطماع إيران ومشروعها الطائفي، لا يزال ذو بعد كارثي على كل المنطقة، دون أن يدفع هذا التقييم الاستراتيجي، إلى قرار حروب أو مشاريع فوضى عشوائية تشتبك مع إيران دون جدوى، بل تعزز موقعها.
خاصة بعد استخدام الحرب المذهبية، كخديعة كبرى انتهت إلى أن المنطقة تخسر أمام إيران، وأن رياح التكفير المذهبي والصراع القومي لم تنقذ العراق من بصرته لموصله، ولم توقف تصفية ثورة سوريا.
بل وانتهت بعد كل تكاليف الحرب، إلى أن إبادة الإصلاح اليمني وإسقاط بنية الشمال في اليمن، هو هدف استراتيجي لصفقة ابوظبي، والإدارة الأميركية، مقابل مشروعها الاقتصادي الأمني في الجنوب، وهو مشروع سيجر على أهل اليمن، والخليج العربي ما يجر من مآسٍ مستقبلا.
9- من الواضح أن موقف دول المحور ستخوض هذه المرحلة، لكن هناك رسائل تقييم قلقة لم تكن تتوقع خسائرها السياسية بعد صمود الدوحة، وتكلفة ما دفعت له أبو ظبي من واقع سياسي خطير.
وحالة التحييد المتوتر قائمة أصلا في سياقها الحالي، وبالتالي ستبقى آثار الأزمة إلى حين، لكن قد يطرأ موقف جديد بطلب غربي وخاصة واشنطن لأجل مصالحها، لطي ملف القطيعة، وحاجة دول المحور ذاتها إلى الخروج من هذه المرحلة.
10- ولكن كسر التحييد للأزمة مستقبلاً، يتزامن مع فقدان ثقة كامل من قطر تجاه شركاء المحور في المجلس الخليجي، كما أنه يبعث تشككات كبرى، في حسابات دول خليجية أخرى بعد التجربة المرة، والتساؤل عما هو الإطار المضمون لأمنها القومي السيادي، وكيف ستتعامل مع مواسم ترامب قبل عزله، ومع الثقة التي تعززت لإيران مع الغرب كخصم عاقل، أمام ظاهرة الأزمة الخليجية.
11- هذه التأثيرات السياسية، التي تصاحبت مع عودة حميمية لدول المحور مع نظام بغداد، الذي كان ولا يزال موالياً لإيران، جرت في ذات الوقت الذي يُعزّز فيه حصار قطر، وهو في ذاته أزمة كبيرة، ولسنا نقصد هنا رفض جسور سياسية ودبلوماسية ذكية مع الدولة العراقية، لدعم كفاح المجتمع المدني العراقي أمام تغول إيران.
فهذا مطلوب بعد كارثة حصاد داعش الإرهابي، وتمركز الحشد الطائفي الإرهابي كقوة رسمية، وإنما الإشكال أن هذه العلاقات تأتي في ظل عشوائية مضطربة مع حكومة العبادي لكسب موقف ترامب، والبنتاغون في العراق، وليس القيام بتوازن سياسي استراتيجي، لدول الخليج العربي، ما بعد حرب الموصل وخطة تصفية ثورة سوريا.
هنا يبدو أن مرحلة التحييد في الأزمة الخليجية تحمل تحديات خطيرة جدا، ما دام التفكير الاستراتيجي غائب، وروح الانتقام والملاعنات الجاهلية، تخترق المشاريع السياسية، وكل ذلك يصب في ساحة المستثمر الغربي والإيراني/الإسرائيلي، ولقد دعونا مرارا لإطلاق مرحلة جديدة، تبدأ من اليمن بوقف حربها بتعاون نوعي بين مسقط والرياض، وتسوية ثنائية مع الدوحة.
ولعل انهاء ترتيبات الحكم السعودي الأخيرة، تدفع القرار المركزي في الرياض للتوجه لمعالجات استراتيجية، بأطقم سياسية مخضرمة، بعد ان أُنهكت المنطقة بمغامرات إعلامية عاطفية، خسرت الصديق ومكنت للعدو العنيد.
copy short url   نسخ
27/07/2017
1777