+ A
A -
أرأيت إن كان وراءك جدار يلتصق به ظهرُك؟ هل تستطيع أن ترجع إلى الوراء خطوة واحدة؟ ذلكم حال الذين ثاروا بأنظمتهم، لم يعد هناك شيء يخسرونه، حتى شعارات «الأمن والأمان» و«لا أحد ينام جوعان» التي كانوا يتسوقونها لم تعد تجدي. كمثل الإنسان يصل إلى حبل المشنقة ثم يجد صوتا من ورائه يقول «احذر» أن تزل قدمك! وأيّ شيء أقتلُ من الموت؟؟ ألم تسمع قول الشاعر:
تقحّم – لُعنت– فما ترتجي
من العيش عن ورده تُحرمُ
أأوجع من أنك المزدري؟
أأقتل من أنك المعدمُ؟
وماذا تنتظر من شعب جاع واضطـُهد وذل في أرضه التي استبدت بها أنظمة عمدت إلى تخريب البلاد وإفساد العباد، فدمّرت أنظمة التعليم والقضاء بالرشوة والجشع؟ أيّ (أمنٍ) بقي ومئات الآلاف في فروع «الأمن» يذوقون الصعق والصلب والجلد والحرق وما لا تصفه الكلمات؟ وكل هذا من أجل رأي أو كلمة أو مقالة ما زادت على أن طالبت بالحق، (الحق) الذي تكفله كل دساتير الأرض، ولكنه يتحول في قمعستان إلى (مكرمة)..
اليوم هناك من يصرّ على أنّ الربيع العربي دمّر الوطن العربي وأسفر عن ظهور التنظيمات المتشددة، وهذه معزوفة بات لها جوقة كبيرة تريد أو يرادُ لها أن تضع رأسها في الرمل إزاء الحقائق التالية:
- الربيع العربي لم يسلب أحدا قراره السياسي، ومن كان قراره مسلوبا من عشرات السنين ويبحث عن علاقة يعلق عليها الارتهان فليعلق على أي فصل شاء.
- الربيع العربي لم يأتِ بالبطالة، واسأل خطط الرؤية الداخلية وتواريخها لأي دولة عربية مرّ بها الربيع أو كاد.
- الربيع العربي لم يقتل الناس. قتلهم المستبدّ الذي خوّنهم ثم جيّش عليهم مقدّرات البلاد التي كان صدرُ العدو أولى بها.
- الربيع العربي لم يقوض الأمن والأمان بل انقدحت شرارته بحثا عنهما في دول يتسيّد فيها كلب المخابرات على الشيخ والرضيع والمرأة على السواء.
- الربيع العربي لم يلد الإرهاب. اسأل إن شئت بلير وبوش وبرجي مانهاتن.
قديما، عُرف العربي بالأنفة، وتلك بشكل أو بآخر نزعة للتحرر، وقد جهد الفلاسفة في سبر أغوار الحرية فمنهم من جعلها شرطا لوصول الإنسان إلى حياة العقل ومنهم من قال إنها سبيل الارتقاء إلى الوجود المطلق. وهناك الحرية المطلقة التي تتيح للمرء فعل كل ما تتيحه القوانين السائدة والأعراف المحلية. غير أنني استوقفني فيلسوف بريطاني يدعى توماس هوبز بقوله: إن كينونة الحرية في الإنسان دافع أساسي لإعمال حريته. وهذا قريب من حالنا اليوم فالأنفة ليست سلعة رائجة لدى الجميع. والحرية باتت مشيطنة من قبل شريحة واسعة من المجتمع.
وإذ قلت المجتمع فلا بد من الوقوف على الطبقية أو الفئوية التي قسمت الناس إزاء الحرية بشكل يوضح بعض اللبس: لن يقبل الربيعَ العربي من كان ركنا من أركان نظام مستبد، فتلك فئة تسمي ارتهانَ القرار حنكة، والجوعَ مؤامرة، والرشوة تقصيرا عارضا، وفروع الأمن ضرورة لا يتم الواجب إلا بها. وهؤلاء لا يشعرون بذل التبعية السياسية، بل ربما اختال أحدهم إذ يُفتح له باب السيارة كما اختال عبد الرحمن الناصر أمام ملوك قشتالة أيام كان يحكم نصف الأرض. ولا هم يشعرون بقصور التعليم والقضاء فأولادهم في جامعات لندن ونيويورك وباريس، وأما القضاء فلا يمرون من خلاله ولا هو يعرف أسماءهم ولا عناوينهم.
وهناك طبقة المستفيدين، وأولئك يسبحون بحمد الأنظمة التي ميّزتهم عن سائر الشعب، فلا هم شاركوا الشعب بطالته ولا فقره ولا عذاباته في السجون والمعتقلات. وهناك الأركان «الخدم» كالمخبرين، وهؤلاء يعتاشون من حالة القمع ويذهبون إن هي ذهبت، وتأييدهم من حيث ينظرون ضرورة ومسألة بقاء أو زوال..
أما القاع فينتشر فيه زمرة المساكين الذي يصدقون كل ما يرد في الجريدة الرسمية، أولئك لم يخرجوا بمكسب ولا بماء وجه، وإن استمعت إليهم جعلوا لك الحاكم وليا من أولياء الله الصالحين، لو أراد لاستردّ الأقاليم السبعة ولكنّ مكره العظيم وحنكته الحكيمة يحولان دون أن يتهور باستعداء القوى العظمى، وهو يعمل على مبدأ «امش عدل يحتار عدوك فيك».. أولئك لا يرون في الحياة مكرمة أعلى من مقام الطاعم الكاسي وقد صدق فيهم صاحب الأبيات الآنفة أعلاه وهو الجواهري:
لم يعرفوا لون السماء لفرط ما انحنتِ الرقابُ ولفرط ما ديست رؤوسهمُ.. كما ديسَ الذبابُ
إذا كان الغرب قد شيطن مفهوم الجهاد، وبعض العرب قد شيطنوا «الربيع العربي» فلا تعجب من أن تُشيطن كلمة «الحرية» عما قريب بعد أن أصبح دعم الربيع العربي سببا للتخوين ومدعاة لإصدار لوائح الإرهاب.
copy short url   نسخ
27/07/2017
2590