+ A
A -
المطر حين يهمس لسمع الأرض، تبوح بما لديها من عشب وتفاح وسنابل، وتجود بعطر نعناعها وبنفسجها المتكئ على جدار الليل، لأن للهمس حضورا طاغيا رغم جلجلة الصراخ الخطابي في مناسبات هزائمنا، للهمس وقع عذب يحفز على الإنصات، لكن الأذن العربية التي لم تعتد عليه منذ الولادة، تستهجنه أحيانا، وتصنفه في باب الغدر والخديعة والتآمر، حتى اقترب في المفهوم العام من أن يكون عيبا، لذلك هجره أصحاب الكلام سواء في الخطابة أو في الشعر، فاعتاد الخطيب أن يصرخ واعتاد الشاعر أن يصرخ، وإذا كان الصراخ مبررا في سوق عكاظ لاعتماد الخطيب والشاعر على القدرة الصوتية فقط ودون مساعدة ميكروفونية أو دون وجود لمكبرات الصوت، إلا أن الأمر الآن اختلف بوجود التقنية الحديثة التي استطاعت إيصال صوت المهندسين في وكالة ناسا إلى الرواد الواقفين على القمر.

أما آن لنا بعد كل ما وصلنا إليه من فواجع قومية وإنسانية، أن نتبنى الهمس في التربية والتعليم، والهمس في النقاش والعتاب، والهمس في القبول والرفض، والهمس حين نقول الشعر أو النثر؟!، أما آن لنا أن نعطي للأذن حقها من الاحترام، لأنها لا تسمع غير صراخنا منذ حرب البسوس، كما أن منطق عمرو بن كلثوم المتعصب والغاضب في شِعرنا ما زال واضحا وضوح مآسينا مع أننا ما عدنا نجهل على أحد، والعالم كله يجهل علينا، أما جهلنا فتركز على أنفسنا، لماذا لا نجرب الشعر همسا، بحيث لا تجفل المفردة من صراخنا، لماذا لا نحتفي بالكلمة الشعرية ونأتي بها إلى عرش القصيدة متوجة بالإحساس؟!.

المفردة والقصيدة والمرأة، كلها تنتهي بتاء التأنيث التي تعني خصوبة الوجود، وأنوثة الأرض التي تلد الزهور والأغاني وحكايات الريح، كل الشعراء المعاصرين الذين همسوا بقيت آثارهم، نزار قباني هَمَسَ شعرا، محمود درويش هَمَسَ شعرا ولم يصرخ إلا في وجه العدم قبل رحيله بدمعتين، السياب همس شعرا والبياتي وحجازي وغيرهم كثيرون، لكن رسالتهم تحتاج إلى متابعة من شعراء اليوم، أكملوا همسكم كي تعتاد الأذن العربية على سماع الهمس شعرا بعد أن أرعبها صراخ الخطابة عبر مكبرات الصوت التي تخاف من الهمس.

الحروب الحديثة هامسة، شاشات، إشارات، أقمار صناعية تُصور استرخاءنا، عدسات، تعليمات مشفرة، تنفيذ سريع وهامس، إذا أصبحت الحروب هامسة، أما آن لنا أن نجعل الشِعر هامساً؟! رسم الكاريكاتير يثير حرباً، رغم أنه صامت وليس هامساً فقط، إذن من باب أولى أن نجعل القصيدة هامسة، تُرَبِتُ على مشاعر جرحتها صفاقة الواقع المصنوع من صراخنا، فلنجرب الهمس شِعراً، فلربما يستيقظ فينا إحساس نسيناه في زحام خروجنا من ذواتنا إلى عالم صنعه لنا تجار الدمى ومشاريع الوهم.

نحتاج إلى تعلم الإنصات، وذلك لن يتم من دون الهمس، المعنى يضيع في الصراخ، فلا يصل إلى القلب، دعني أسمعك بقلبي، أوليس في القلب أذين؟! دعني أسمعك بروحي لأن الروح تسمع، اهمس بقصيدتك ولا ترمها على الجموع المعتادة على السماع خوفا وليس فهما، دع الآخر يسمعك مشدودا لهمسك وليس مجبرا بصراخك، فالقصيدة ليست لشاعرها فقط، إنها لسامعها وقارئها، يتبناها المتلقي إذا أحس بأنها تحترم سمعه ووعيه ووجوده، نريد شِعراً عربياً يبحث عن مواطن الجَمال فينا، يوقظ فينا الفرح الطفل وبهجة استقبال النهار الجديد، يعيد إلينا ثقتنا بذاتنا التي ما زال فيها توق للإبداع وحنين إلى صناعة الحياة، نحتاج إلى الشِعر همساً.. لكي ننهض.
copy short url   نسخ
27/07/2017
2093