+ A
A -
عمان– الوطن – عمر أبوالهيجاء
في هذا الاستطلاع الثقافي نحاور بعض المتخصصين والمشتغلين باللغة العربية، حيث تساءلنا معهم عن فصحى التراث وهل المقصود بها اللغة العربية؟ وهل فصحى التراث أصبح استعمالها الآن قاصراً على الموضوعات الدينية والتاريخية، كما يقول أحد الباحثين. فكانت هذه الإجابات والرؤى المنهجية المتباينة.
الشاعر والناقد مهدي نصير، أكد أن اللغة العربية الفصحى التراثية أصبحت لغةً معجميةً، فقال: الوهن والتَّعدُّد يصيب اللغة عندما يضعف الناطقون بها وينزوون بعيداً عن حركة التاريخ والحضارة ويضطرُّ مثقفوها لاجترار لغتهم القديمة التي لا هي قادرةٌ على حمل الحاضر ولا هي قادرةٌ على التحوُّل والتطور، ويضطرُّ الناس لاجتراح استعمالاتهم اليومية دون وجود مرجعياتٍ لغويةٍ تقوم سنوياً بمراجعة معجم اللغة وإضافة تراكيب وكلماتٍ جديدة للغة الرسمية كما يحصل في اللغات الحيَّة.
وبيّن نصير، أن التحوُّلَ والتطور مرتبطٌ ببنية المجتمع وحيويته واستجاباته الحضارية للمشاكل التي تواجهه، والمجتمعات العربية التي استقالت منذ أكثر من ألفِ عام لم تعد تفكِّر بمشاكلها مما راكمها وأصبحَ من الصعب جداً تفكيك أزمة اللغة العربية المرتبطة بأزمة المجتمعات العربية العاجزة عن مواجهة مشاكلها وإيجاد الحلول القابلة للتطبيق والحياة. اللغة العربية الفصحى التراثية أصبحت لغةً معجميةً وتنامت حولها وبعيداً عنها اللهجات العربية المختلفة والتي هي أيضاً بدأت تبتعد عن بعضها متأثرةً بعوامل جغرافيةٍ وتاريخيةٍ وسياسيةٍ مختلفة.
وخلص إلى القول:عندما يكون الفرق شاسعاً بين اللغة العربية الفصيحة واللهجات العربية المحكية فهذا يؤشِّر على ضعف بنية الأمَّة وعدم قدرتها على ردم الهوَّة بين الواقع المعاش ولغته المنفلتة وبين تاريخ اللغة وتراكيبها التي تحمل واقعاً قديماً ساكناً في بنيتها الدلالية والفكرية والصرفية توقَّف عند لحظةٍ تاريخيةٍ قديمةٍ وفقد القدرة على التقدم، لذلك فهو يُعبِّرُ عن تلك اللحظة التراثية القديمة التي توقَّفَ عندها.
فيما رأى الناقد والباحث د.اسماعيل القيام، أن كتب التراث الأدبي والنقدي مازالت تقرأ، وأن فصحى التراث واحد من عدة مصطلحات أخرى مثل (العربية القديمة)، و(العربية الكلاسيكية)، وما شابههما، ولعل مصطلح (فصحى التراث)، هو أخف هذه المصطلحات، وأقلها وقعا على النفس، وإن كانت كلها تحاول إسقاط واقع اللغات الأخرى كالإنجليزية مثلا على اللغة العربية، ليثبتوا أن في اللغة العربية كلاسيكيا ومعاصرا كما في اللغة الإنجليزية، مع أن واقع الأمر مختلف جداً بين العربية وغيرها في هذا الأمر؛ إذ إن الإنجليزية أمرها منبتّ بين حاضرها وماضيها، بخلاف اللغة العربية التي يقرأ أبناؤها آداب العربية ومنجز أجدادهم الثقافي والحضاري منذ 14 قرنا أو يزيد، فلا يعوقهم إلا مصطلح في موضوع متخصص، أو اسم موضع، أو لفظة تستعمل في حقل دلالي لم يعد من ضمن ما نستعمله في بيئاتنا وظروفنا المعاصرة.
وأضاف «د.القيام» أنه لا أميل إلى القول بأن فصحى التراث قد غدت قاصرة على الكتب القديمة وما تحتويه من موضوعات دينية أو تاريخية، فالفصحى فصحى تتلألأ في كل عصر على ألسنة أدباء العربية وما تبدعه أقلامهم. وإن كان من شعور بانفصال فصحى التراث عن فصحانا المعاصرة فإنما مرجع ذلك ابتعاد أبناء العربية عن الإحساس بلغتهم، ومحبتها، والشعور بالاعتزاز عند استعمالها. ولا أدلّ على ذلك من أن كثيرا من القراء يقرؤون في كتب التراث وأدب العرب شعره ونثره، ويطربون لذلك وتهتز أحاسيسهم، ونسمع في كل يوم من يقول: لا أستمتع إلا بقراءة الشعر العربي القديم. ومازالت كتب التراث الأدبي والنقدي تُقرأ وتُتذوق لدى كثير من أبناء العربية الذين تربى ذوقهم على حب العربية.
علوم وفنون
من جهتها أكدت د.حنان سعادة أن استعمال فصحى التراث أصبح الآن قاصراً على الموضوعات الدينية والتاريخية، فقالت: ظهر في فترة متأخرة ما يسمى بفصحى التراث والفصحى المعاصرة، ودرج بعض الباحثين في التفريق بينهما، فذهبوا إلى أن فصحى التراث هي لغة الكتابة التي تدون بها المؤلفات والصحف والمجلات، وشؤون القضاء والتشريع والإدارة، ويؤلف بها الشعر والنثر الفني، وتستخدم في الخطابة والتدريس والمحاضرات، وفي تفاهم العامة إذا كانوا بصدد موضوع يمت بصلة إلى الآداب والعلوم، وهذه الفصحى تتجسد في القرآن الكريم فالحديث الشريف ثم في الشعر العربي.
وبينت «د.سعادة» أن فصحى التراث هي اللغة التي احتفظت بخصائصها النطقية والتركيبية بحيث لم يخالطها ما اختلط العربية المعاصرة من ألفاظ وتراكيب وأساليب حديثة، وهي التي تنزع إلى تقليد أساليب البلغاء والقدماء، ويوشك استعمالها الآن أن يكون مقصوراً على بعض علماء الدين وأصحاب الثقافة العربية الخالصة فهم يحرصون في النطق بها على قواعد وصوتيات اللغة كما عرفها علماؤنا القدماء؛ لذلك لا نجد تطبيقاتها إلا لدى هذه الفئة التي تمرست بالقديم واطلعت على التراث وظلت محافظة على التقاليد اللغوية كما انتهت إليها من علماء العرب الأقدمين.. ومن أهم سماتها أنهت لغة الفكر والعقيدة، وتتميز بتنوع أسالبيها وعباراتها، وقدرتها على التعبير عن معانٍ ثانوية لا تستطيع اللغات الغربية الأخرى التعبير عنها.
وذهبت إلى القول: أن الملاحظ على فصحى التراث أن استعمالها أصبح الآن قاصراً على الموضوعات الدينية والتاريخية، فلا نقرأها إلا في كتب التراث القديمة، وفي الموضوعات الدينية، ولا تسمعها إلا من خطباء المساجد، وعلماء الفقه، وذوي الثقافة التقليدية، ويقابلها في العصر الحديث ما يسمى بالفصحى المعاصرة، وهي الفصحى المتحدث بها بدلا من اللهجات المحكية أو الدارجة، وهي سليل مباشر للعربية التراثية؛ فصلة العربية المعاصرة بفصحى التراث كصلة الابن بأبيه، يحمل الابن صفات أبيه الوراثية والثقافية ويختلف عنه أنه يعيش في زمن غير زمن أبيه، والفصحى المعاصرة وهي اللغة المستخدمة اليوم بشكل واسع في الصحافة أساسا والمعتمدة في التعليم وفي المعاملات الرسمية، وهي لغة التأليف العلمي والأدبي في معظم كتابات كتّاب هذا العصر. وهي اللغة المسموعة من ألسنة المذيعين والصحفيين. وتتحرر هذه اللغة مما في فصحى التراث، فيلجأ فيها القارئ إلى تسكين أواخر الكلمات خوفا من الخطأ والوقوع في اللحن. لكن ظلت الأساليب والتراكيب الموجودة في العربية الفصحى التراثية حاضرة في العربية الفصحى الحديثة، وأدخل عليها الأدب العربي أساليب وتركيبات جديدة، بالإضافة إلى تأثير اللهجات العربية المتعددة واللغات الأخرى.
استجابة للعصر
أما الناقد القاص نايف النوايسة بيّن أن اللغة العربية تتطور وتستجيب للعصر الذي يضخ في الحياة آلاف المفردات، وأشار حين قال: الحديث عن اللغة العربية يطول باعتبارها من أكثر اللغات القديمة حيوية ومرونة واستيعابا لمستجدات العصر، وأما فصحى التراث فأمر يحتاج إلى لقاءات عديدة، يرى البعض بأن فصحى التراث تقوقعت في دروس المساجد وخطبها.. وأصبحت حبيسة الثقافة التقليدية وعلى رأسها النتاج الأدبي.. بالمقابل تبسط فصحى العصر أجنحتها بوساطة وسائل الإعلام المختلفة.. وأود هنا تأكيد موقفي من أن وحدة اللغة هي من أهم مرتكزات وحدة الأمة.. ونحن إذا عدنا إلى تاريخ اللغة العربية سنقف على مراحل نموها وإدراك إنها تآلفت من عدة لهجات عربية ومن بينها لهجة قريش التي استوعبت وتفاهمت مع الكثير من اللهجات لتعكس مظاهر الحياة العربية المدنية ونزل بها القرآن الكريم..
ولفت «النوايسة» النظر أن البعض ذهب ظنه إلى أن اللغة العربية هي لهجة محكية في زمن ما، والواقع يثبت غير هذا، إذ أننا نرى مزيجا متداخلا من اللهجات، وقد أشار ابن جني والكوفيون إلى هذا المزيج، وبينوا حجتهم بظهور إشارات لهذه اللهجات في القرآن الكريم. لقد خلقت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لغتنا الفصيحة المشتركة التي تربطنا بها علاقة روحية قومية وجمعت أبناء الأمة على لسان واحد، ويتفاهمون من خلالها بكل أمور حياتهم، وقلما يلتقون بلهجاته الوطنية.. مؤكدا أن اللغة العربية تتطور وتستجيب للعصر الذي يضخ في الحياة آلاف المفردات، كما يموت العديد منها، وقد رصدت بعض معاجم اللغة العربية سمات هذا التطور؛ ففي معجم العين للخليل بن أحمد ترد الإشارات بكلمتي (مستعمل أو مهمل)، لبعض الكلمات.
وأضاف «النوايسة» أنه في العصر الحديث بادر عدد من المهتمين بتطور اللغة ونمائها وطرحوا بعض الرؤى حول اللغة ومنهم (أنيس فريحة)،الذي صرح بالحاجة إلى لغة عربية بسيطة ببعض الأمور مثل حركات الإعراب والمثنى وجمع المذكر السالم والإعداد والضمائر والأفعال الخمسة واسم الموصول ونحو ذلك.. وفي كلام فريحة بعض الصحة إلا أنه بالغ في مطالباته، دون أن يلفت النظر إلى أن اللغة العربية مرنة جدا في التركيب وقبول مفردات أجنبية تخدمها في عملية التطور، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما اللغة إذا كان أبناؤها لا يتقنون الحديث بها أو يتجنبون استعمالها لجهلهم بقواعدها؟
وأنا مع تبسيط اللغة دون أن يؤدي الأمر إلى ابتذالها وهدمها.. ومع بقاء باب (الاجتهاد)، اللغوي مفتوحاً دون تجريم أحد واتهامه بالزندقة اللغوية مثلا.
copy short url   نسخ
26/07/2017
2935