+ A
A -
الخرطوم - الوطن - محمد نجيب
ودعت الخرطوم مساء أول أيام العيد أحد أبرز النقاد السودانيين الذين أسسوا للنقد الحديث منذ ستينيات القرن المنصرم. ويعد عبدالقدوس الخاتم والذي ولد في العام 1945 من أميز النقاد على مستوى الوطن العربي في الكتابة عن النص الروائي والقصصي والشعري، وله مساهمات في دراسات الأدب المقارن، وفي ترجمة العديد من النصوص الروسية والإنجليزية للغة العربية حيث كان يجيد اللغتين، بجانب أنه كان يكتب القصيدة المعاصرة. وكان الراحل قد التحق بجامعة الخرطوم في مطلع الستينيات لدراسة الطب ولكنه هجره وسافر إلى روسيا ثم إلى لندن حيث حصل على درجة البكالوريوس عام 1981 من لندن وتمهيدي ماجستير اقتصاد من كلية بيربك بجامعة لندن، وعمل بالملحقية الثقافية بالسفارة السودانية هناك على مدى أربع سنوات وعمل مشرفا على ملفات ثقافية ساهم من خلالها في تقديم العديد من الأصوات الجديدة، وخاض عبدالقدوس الكثير من المعارك الأدبية حول الأدب القديم والأدب الجديد مع أبرز رموز المدارس التقليدية في الشعر والقصة والرواية في السودان، ووجدت كتاباته قبولا واسعا من كثير من قطاعات المثقفين لما تميزت به من اختلاف عن السائد والتنقيب في النصوص الإبداعية، وله تجربة في الهجرة استمرت أكثر من عشرين عاما عمل فيها مترجما ومديرا إبداعيا أبعدته عن الواقع الثقافي، وصدر له كتابان «مقالات نقدية» عام 1976 من مصلحة الثقافة وأعيد طباعته عام 2010 عن مركز عبدالكريم ميرغني وكتاب «مراجعات في الثقافة السودانية» عام 2012 عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي وسبق أن نال الراحل العديد من الجوائز التقديرية من ضمنها جائزة مهرجان الثقافة الأول في السبعينيات، وجائزة الملكية الفكرية من سويسرا عام 2008م وكرمته جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي عام 2009م.
هوية الكتابة
يقول الناقد الدكتور أحمد الصادق أحمد: لاشك أن المحطات الرئيسية في سياق تطور الممارسة النقدية بدأت بحمزة الملك طمبل والأمين علي مدني ومعاوية نور، نوارة تلك المحطات ومحط آمالها العراض. ذلك التراث النقدي وتلك الذاكرة قد اتسعت كل مواعينها في لحظة أستاذنا الراحل عبدالقدوس محمد الخاتم، الأمدرماني الحداثي الفذ. تمرد في عقد الستينيات على دراسة الطب وهاجر لروسيا حيث بدأ دراسة الآداب وبكل قلق الفنان فيه تمرد على صرامة طرائق الدرس الأدبي الروسي آنذاك المتخم بالواقعية الاشتراكية والواقعية الاجتماعية التي اختزلت بجلافة الدرس الأدبي ليوميات جوركي وقصائد مياكوفسكي الهتافية. خرج من أزمنة البرد والجليد والدولة الاشتراكية بحفظه لبوشكين وإجادته للغة الروسية، قبلها بسنوات خبر الكتابة باللغتين العربية والإنجليزية، لاحقا كان من أوائل السودانيين، بالإضافة إلى المرحوم صلاح هاشم، ممن ترجموا عن اللغة الروسية، الخاتم من الشعر والآخر التاريخ السياسي للشرق العربي بعيون روسية.
سنوات وهو هائم حتى التحاقه بالعمل موظفا بوزارة الخارجية ليحط رحاله في لندن وهناك نال درجة علمية في الشؤون الدولية، وقبل ذلك بعدة سنوات وتحديدا منتصف سبعينيات القرن الماضي، ظهر عبدالقدوس كناقد أدبي في المشهد آنذاك بوجه نقدي متجهم، لاحق أجناس الكتابة المتنوعة في السودان والمحيط العربي والمحيط العالمي بحصافة وصرامة ناقد ظهرت وتجلت معارفه واستيعابه للدرس الأدبي بالألسن العديدة التي رطن بها وترجم عنها.. تلك كانت مقالاته التي جمعت لاحقا في كتيب أعيدت طباعته من مركز عبدالكريم ميرغني بأمدرمان، ولاحقا جمعت مقالاته التي كتبها في السعودية ولندن في كتاب اخر صدر من ضمن مطبوعات المركز أيضا. استاذنا الراحل استمع لأصوات مدارس نقدية متنوعة في كتاباته ويتجلى ذلك في تناوله العميق لتجارب الكتابة في العالم، وقد نحت لغته النقدية منذ عقود وهي التي شكلت هويته النقدية التي استدعت معاوية نور والمصري أنور المعداوي والأميركي إدموند ويلسون وإشعار طرفة بن العبد وبوشكين ا. ه. اودن.
والخاتم جزء أصيل من ذاكرة الإبداع في السودان بل ارتبطت كتاباته بهوية الكتابة عموما وبهوية الكتابة النقدية على وجه الخصوص. كان قويا وصلبا وشجاعا وجسورا ولا يأبه لأية انفعالات عاطفية ويمضي قدما بإنتاج معرفة بالنصوص ودروس حول تلقيها وأبعادها النفسية والفلسفية. حمي وطيس سجالاته لعقود ولكنه ظل أمينا للدرس الأدبي وحريصا على تدوين تلك السجالات وتاريخ الممارسة الثقافية في السودان وقد قطع كل تلك المسافة المرهقة بأرق وقلق بل وبألق عظيم.
بينما تذهب الدكتورة والأستاذة الجامعية والناقدة ليمياء شمت إلى أن مشروع عبدالقدوس النقدي مثال حي لحالة الاستعداد الشغوف بالفحص والاستقصاء الذي لا يطيق ضجر طمأنينة الإقامة في كنف الفكرة الخاملة والقناعة المزمنة. ليظل الخاتم يتحرى التوغل بلا حذر في المناطق المسيجة التي تسكنها الوثوقيات المتصلبة والمسبقات المستقرة. وقد أولى جل عنايته في مقالاته النقدية للمنجز الإبداعي السوداني في أجناسه وأنساقه المختلفة، دون أن يمنعه ذلك من إسراج خيول تأملاته واستبصاراته إلى الفضاءات الجمالية الإنسانية المفتوحة عبر العالم. وقد حذر الخاتم بكل وسعه النقدي والرؤيوي من حالة المسغبة النقدية، وغياب منهج نقدي تقييمي موضوعي منضبط ومنصف، في مقابل المجانية التي تفشو بها المجاملات المزاجية والتحيزات، والمداجاة التي لا تنتج غير الرؤى الضيقة والأحكام الرخوة المبتسرة. وقد ظل الخاتم بدوره يرسل مجساته النقدية المثابرة في جذوع النصوص وأوعيتها وعصارة نسغها لتحري أصالتها وجدارتها الإبداعية، غير عابئ بثقل الأسماء والألقاب والحصانات المفترضة في سلك المشهد الثقافي. ليتخذ مواقف لا مواربة فيها تجاه التجارب النيئة والمعطوبة ومحدودة الطاقة الإبداعية لحد إطلاق عقال سخرية سوداء وتنفيس ذهني متهكم قد يخز عميقا حتى العصب، صدا للجمود والبوار والتسطح وتخفيض الأفكار الكابحة للرصد والمناقدة. ولعل ذلك يمثل في حد ذاته أحد السمات الهامة في تجربة الخاتم وهي تلك المساكنة الواعية بين الانفعال الجمالي والسبر الرؤيوي الموضوعي بحثا عن مضمرات النص وجوانياته وجوهرانيته وأصالته الفنية، وحضا على دينامية التدارس والتناظر والتحاور والتلاقح المنتج المنفتح. ولم يتردد الخاتم كذلك في حيثياته الكاشفة عن توجيه الإدانة لقطب التلقي أو ما أسماه بأزمة القراء، حيث يتوجب على القارئ أن يعي مسؤوليته في التمحيص والتدقيق ولجم الضحالة، وعدم تمرير الخواء والرداءة. وقد عبر الخاتم مرارا عن مناصرته للحس الاستشرافي المستقبلي والعقائد الإبداعية الحداثية، والحساسيات الجديدة. وهو مما جعل مشروع عبدالقدوس الخاتم النقدي يتميز بالثراء النوعي والاكشافات الحادبة، والإضاءات الفكرية الرصينة، والذاكرة القرائية العريضة، والوسع التحليلي السابر الذي يأتي كنتاج لعمل شبكات معرفية وجمالية ورؤيوية متدامجة.
الفقد الكبير
ويقول الشاعر يوسف الحبوب: إن رحيل الخاتم فقد باهظ للنقد، فالخاتم كان ناقداً رصيناً ومثيراً ومحفزاً لأسئلة التحدي وبموته انطوت صفحة بالغة الأهمية في مسيرة النقد والقضايا الكبرى فيه وانتهى وهج المعارك الفكرية بنبلها ومرارات بعضها وإن المنتج الباهر الذي تركه أو عكف عليه الراحل الخاتم سيبقى وهجاً ناصعاً في سيرة ومسيرة النقد والأدب في السودان، هو رحيل آخر عمالقة النقد، وهو فقد حقيقي إذا وضعنا في الحسبان إصرار الراحل على اثراء تجربته رغم المحنة الصحية، ويقول الروائي والقاص محمد خلف الله سليمان: لقد شهد أستاذنا عبدالقدوس عهدا بالغ الشراسة.. عهدا يضيق فيه الكتاب بالنقد ولا يتوانى الواحد منهم قط من أن يحمل عصاه ويقطع الفيافي لينال من ناقده، كما أن النقاد كانوا ينأون بأنفسهم عن تناول أعمال مجايليهم، لذلك ساد ضرب من النقد الخفي أو النميمة النقدية التي تدار من وراء الحجرات. الا أن عبدالقدوس قد هوى بمعوله النقدي على هذا الواقع وانبرى لنجوم تلك الحقبة وظواهرها وأعمل فيهم نقدا، وكان صريحا حد الإدماء. لقد أحال عبدالقدوس النقد من دائرة العلاقات العامة (والذي مازال يمارس) إلى حقل التشريح والتطبيق النقدي الصارم، لكنه أيضا ظل يراجع الكثير من أطروحاته النقدية وينصف العديد من الكتاب. يذهب الناقد البروفسير محمد المهدي بشري إلى أن فقد عبدالقدوس الخاتم سيترك فراغا في مجال النقد الذي يعاني أصلا من قلة الأقلام المؤهلة والرصينة، وعبدالقدوس صاحب مدرسة أقرب للتحليل وكان يبحث دائما عن الأسئلة، ولاشك أن هناك كثيرا من المساهمات المتناثرة ضمن أوراقه حال المرض دون الاهتمام بها أو جمعها ونأمل أن تحرص الأسرة على حفظ هذه الأوراق بغرض نشرها حتى تعم الفائدة.. ويقول الناقد مجذوب عيدروس الأمين العام لجائزة الطيب صالح: إن عبدالقدوس من الدفعة التي جاءت إلى جامعة الخرطوم في العام 1962م، وكان في محيط الجامعة كوكبة من الأدباء والنقاد محمد عبدالحي ومحمد المكي إبراهيم ومحمود محمد مدني وعبدالله محمد إبراهيم، وقد اختار عبدالقدوس النقد الأدبي ليكون ميدانه وقدم مساهمات قيمة في الالتفات إلى تجارب أبناء جيل الستينيات، وأعاد النظر في بعض المسلمات التي رسخت في ذاكرة النقد السوداني، واهتم أيضا بتتبع آثار النقاد الإنجليز واستفاد من معرفته باللغة الإنجليزية في تقديم رؤية نقدية مختلفة، كما أسهم في تقديم عدد من الكتاب والنقاد إلى الساحة الثقافية السودانية خلال إشرافه على الصفحة الثقافية بجريدة الأيام في السبعينيات ونشرت له جريدة العرب اللندنية مقالات مهمة إبان فترة عمله بالسفارة السودانية. ويذهب الروائي والقاص بشري الفاضل إلى أن عبدالقدوس ذهن نقدي عاصف ومنذ محمد محمد علي أعتبره أحد أميز نقادنا.. وقد رحل عبدالقدوس وفي خاطره رغبة أكيدة في الكتابة عن عبدالحي والمجذوب كتابة ظل يؤجلها لسنوات بفعل المرض. كتابه «محاولات نقدية» متفرد وهو أقوى الأصوات النقدية في بلدنا. فقده فقد كبير وانقطاعه لفترة طويلة عن الكتابة جعل هناك طبقة شمع بينه وبين الأجيال الناشئة فلا يسمعون صوته.. يرحمه الله.
copy short url   نسخ
29/06/2017
3583