+ A
A -
بقلم - باسم توفيق
إن من أهم مزايا الأدب أنه مثل المركب ذي الشراع الذي يوجهه الريح بين ضفتي نهر، وهاتان الضفتان تمثل إحداها الخيال والأخرى تمثل الواقع وفيما بين هاتين الضفتين يسير المركب حسب قوة هبوب الريح التي تمثل هنا الإلهام.. لكن يظل المركب يتأرجح بين الخيال والواقع؛ فيقترب من هذا شوطاً ومن تلك شوطاً آخر، والحقيقة يعتبر أحياناً ما يمثله خيال الأدب مرتعاً خصباً للبحث والدراسة ويجد الباحثون الأكاديميون لذة كبيرة في فك طلاسم الخيال الأدبي ومقاربته بالواقع، والغريب في ذلك أيضاً أن يكون هناك أدب في أقاليم بعينها تميز بأن خياله مستنسخ من الواقع وواقعه مشابه للخيال وهكذا يكون على الباحث أن يبذل مجهوداً مضاعفاً لفك الاشتباك بين الخيال والواقع في العمل الأدبي بقدر المستطاع ويظل كل ما يصل إليه الباحث أيضاً عرضة للنقد ويحتمل التخمين قبل التأكيد.
وكما قلنا هناك بعض الأقاليم التي يصبح الأدب فيها خليطاً غريباً من الواقع والخيال والقصص الشعبي ومشاعر الكاتب ذاته وأهم الأقاليم التي تتميز بهذه السمة إقليم الأندلس المعروف باختلاط الأعراق والوشائج والأجناس الأدبية نتيجة التدجين بين الشرق متمثلاً في الهجرات العربية التي استقرت في الدولة الوليدة آنذاك في القرن التاسع الميلادي وزهاء القرن الثالث الهجري، وحيث كان الأدب يتميز بمزية في هذه الفترة وهي شدة قربة للأصل العربي وكان التدجين بينه وبين الآداب اللاتينية الأوروبية في العصور الوسطى لازال محل حذر وترقب، ومن ثم في هذه الفترة لم يثبت الكثير من الاختلاط والتدجين بين الآداب العربية والأدب الغربي، والحقيقة أن هذا هو المعروف حتى عقدين ماضيين، لكن تكشف دائماً الوثائق التي يتم أكتشافها أولاً بأول تكشف عن أسرار تغير النظريات التي كادت تصبح مسلمات مكتملة وهذا في الواقع ما حدث مع أديب بعينه منذ فترة قريبة اكتشف باحث من الباحثين الأستراليين الذين يدرسون في الأسكوريال عدة مخطوات كان لها الأثر الكبير في تغير نظريات كثيرة في الأدب والفكر الأندلسي، حيث كان اريك أتزون الباحث في جامعة الأسكوريال الإسبانية العريقة قد كشف عن ثلاث مخطوطات تتنوع أحجامها بين الكبير والمتوسط ومن بينها مخطوطة كبيرة الحجم مكونة من أربع وخمسين رقعة من الجلد مكتوبة باللغة العربية مع بعض الفقرات باللغة اللاتينية الفصحى، وكانت هذه المخطوطة بالأساس قد اكتشفت في كنيسة أثرية صغيرة من القرن الثاني عشر للقديسة فلورنتينا، وقد أرسلت المخطوطة كما هو مدون عليها لمكتبة نابولي العامة ثم لمكتبة الفاتيكان في القرن الثامن عشر ثم استردها الأسكوريال ضمن مجموعة مخطوطات أخرى في أثناء الحرب العالمية الأولى، وظلت محفوظة في مخازن الأسكوريال في قسم الوثائق التالفة حتى كشف عنها أريك أتزون الباحث الأسترالي.
الغريب أن هذه المخطوطة قد تم تأريخها قبل ذلك خطأ أنها من القرن الـ 12 لكن بعد بحث وفحص من الخبراء تبين أنها تعود للقرن التاسع أي في العصور الوسطى، وحيث كانت مملكة قرطبة آخذة في الازدهار ونسب الباحثين بعد دراسة طويلة هذه المخطوطة للعلامة الأندلسي الشهير ابن عبدربه صاحب كتاب العقد الفريد الذي اشتهر به في تاريخ الأدب العربي، ونقول العربي لأن الأدب الأندلسي والكتابات الأندلسية في هذه الفترة كانت قريبة العهد بالعربية والجذور الأصلية لها، وهذا الزعم قد فندت جزء منه هذه المخطوطة لأنها يبدو فيها دراسة واسعة واتصال كبير بالأدب اللاتيني الأوروبي في هذه الفترة وهذا ما أستغربه الباحثون لأن المخطوطة تعود لفترة أندلسية مبكرة جداً لكي يكن هذا الاختلاط بين الأدبين قد ظهر بهذا الشكل الصريح.
تتكون المخطوطة من مجموعة كتابات لنفس صاحب المخطوطة والذي حدد الباحثون أنه العلامة الأندلسي ابن عبدربه وهو أبوعمر أحمد بن محمود بن عبدربه ابن حدير، والذي اشتهر كأحد أدباء وكتاب الأندلس في عصورها الأولى، وكانت هناك آراء كثيرة تعارض نسب المخطوطة له أو لهذه الحقبة برمتها لكن «أريك أتزون» اعتمد في نسبة المخطوطة لابن عبدربه لعدة أسباب أولها أن معظم أجزاء المخطوطة تنتهي بإمضاء كاتبها وهذا الإمضاء هو عابد ربه بن سالم والمعروف أن نسب ابن عبدربه ينتهي باسم جده سالم، كما أن لقب ابن عبدربه قليل وشحيح في الأندلس، بل وفي كل الأقاليم العربية أيضاً، ومع أن الصيغة المكتوب فيها الاسم في المخطوطة مختلفة عن كتابة الاسم كما تعودنا، أي هي مكتوبة في المخطوطة عابد ربه وترد مرة واحدة في المخطوطة– ابن عابد ربه- ويقول أتزون في هذا السبب إن المعنى الاسمي هنا يتطابق ولا يجد فرقاً كبيراً بين عابد ربه وعبدربه، كما أن قدم العديد من الصيغ التي يتم فيها تبادل الألف مع عدم وجودها في الاسم الأصلي في عدة صيغ اسمية في الأندلس.
الإثبات الثاني الذي عول عليه اتزون في بحثه أن هناك أربع فقرات قصيرة في المخطوطة تدور حول نفس موضوعات مؤلف ابن عبدربه الشهير «طبائع النساء»، وهناك فقرة تكاد تتطابق مع نفس أسلوب ابن عبدربه في هذا المصنف الطريف.
ويعود أتزون ويقارن بين أسلوب ابن عبدربه في «العقد الفريد» و«طبائع النساء» وأسلوب كاتب المخطوطة، وبدأ بالتشريح النحوي، ثم أسلوب اختيار الألفاظ، وقارن بين التراكيب التي يستخدمها ابن عبدربه وبين كاتب المخطوطة.
تنقسم المخطوطة لعدة أجزاء كل جزء يمثل موضوعاً منفصلاً عن الذي يسبقه وتتباين الموضوعات في الطول والقصر أيضاً، بالإضافة إلى بعض الفقرات الشذرية، والتي إما تدور حول حكم أو موضوعات مبهمة وهذا ما جعل الباحثين يرجحون أن المخطوطة كانت تدوينه أولية لبعض مؤلفات بن عبدربه المفقودة؛ حيث نسب له ماركوس الأشبيلي أربعة مؤلفات لم تصل لنا منها شيء، منها مؤلف غريب الاسم وهو «سراري مجريط»، و«مجريط» هو الاسم القديم لمدريد ومعناه ملتقى مجاري الأنهار، وواضح من اسم الكتاب أنه كان يتحدث عن موضوعات تخص النساء والعاشقات بالتحديد.
تعتبر أشهر موضوعات المخطوطة حكاية النبيلة «قورنيلي»، أو كما يسميها أتزون «الأميرية قورنيلي» ويؤكد أتزون هنا بطريقة شيقة كيف أن هذا الاسم هو نفسه الاسم الروماني «كورنيليا»، والذي استخدمه الكثير من الشعراء الرومان كاسم مستعار لحبيباتهم، ولكن يعتبر اسم كورنيليا الأكثر شهرة هو اسم النبيلة الرومانية كورنيليا أفريكانوس ابنة القائد الشهير سكبيو أفريكانوس الذي هزم القائد القرطاجي الكبير هانيبال، ويتخبط الباحث بين إذا كانت الحكاية التي يرويها ابن عبدربه في مخطوطته هي تخص كورنيليا أفريكانوس أو هو اسم مستعار لأميرة مجهولة، فالقصة تحكي حكاية عشق النبيلة كورنيليا بشاعر فقير والمخاطر التي تنفي هذه العلاقة بحيث يرى والد كورنيليا أن الشعراء من طبقة متدنية ولا يجوز أن يرتبطوا ببنات النبلاء وتقاسي كورينيليا عذابات الحب ومرارة الفراق بعد أن يرحل حبيبها لقرطاجة ولمدينة اسمها مدينة القبور، وربما يقصد الكاتب هنا أن الشاعر قد رحل للعالم الآخر لأنه يردد في فقرة من فقرات الحكاية، وتعلو أسوار هذه الحواضر علواً يكاد يقطع بصر الرائي إلى السماء ويعسس فيها الظلام وتسكت فيها الأنفاس، ولكن كورنيليا نفسها تقرر أن ترحل إلى مدينة القبور لتتبع حبيبها الشاعر وتقف القصة على أن كورنيليا تركت وشاحها على النافذة ورحلت.
ومن ضمن حكايات الكتاب حكاية فرعون مصر بطريقة مختصرة لكن صاحب المخطوطة هنا يستخدم لغة قرآنية خالصة فيستعير جملاً قرآنية كاملة من حكاية النبي موسى وفرعون مصر مثل: «أنا ربكم الأعلى»، وما شابه من هذه الأساليب.
لكن تظل المقاطع المكتوبة باللاتينية لغزاً في المخطوطة، بحيث أكد باحثو الأسكوريال استحالة أن يكون ابن عبدربه قد أجاد اللاتينية وكتب بها، لكن رد أتزون على هذه النظرية جاء معتمداً على أمرين أولهما أن هناك العديد من أهل قرطبة العرب قد أجادوا اللاتينية ومنهم يهود قرطبة مثل أبا شمويل القرطبي صاحب التاسوعات التي تشرح بعض أحكام الفقه اليهودي باللاتينية في قصائد قصيرة من تسعة أبيات ومن ثم لم يكن من المستحيل أن يجد ابن عبدربه اللاتينية أو بعضاً منها، والأمر الثاني أن المقاطع اللاتينية التي احتوتها المخطوطة ركيكة إلى حد كبير وتستخدم صيغة الفاعل والقابل بإفراط وأحياناً في غير موضعها، كما أن موضوعات هذه الفقرات مفككة وغير مترابطة في ما عدا فقرتين تتحدث منهماً واحدة عن حكمة للإمبراطور ماركوس أوريليوس والثانية عن حكاية السحرة الذين يسرقون الأعضاء من جثث الموتى والتي يرى أتزون أنها تمثل نفس الأفكار الموجودة عند أبوليوس في حكاية الحمار الذهبي الشهيرة.
ويبقى تساؤل أخير وهو أن العديد من أبيات الشعر العربي وردت في نصوص المخطوطة وبشكل رائع بحيث قارب بين خطوط الحكايات وبعض أبيات الشعر العربي، وهنا يكمن الإبداع في المخطوطة الذي يمثل التدجين الواضح بين الأدب العربي والأدب الغربي والذي لم نعرفه مكتملاً في ما بعد إلا في بدايات القرن الحادي عشر.
ولد أبوعمر أحمد بن محمد بن عبدربه بن حبيب بن حدير بن سالم في قرطبة في 10 رمضان 246 هـ، جده سالم كان مولى للأمير هشام الرضا، نشأ ابن عبدربه في قرطبة، وامتاز بسعة الاطلاع في العلم والرواية والشعر، كتب الشعر في الصب والغزل، ثم تاب وكتب أشعاراً في المواعظ والزهد سماها «الممحصات»، وكان يتكسب من الشعر بمدحه للأمراء، فعُدّ بذلك أحد الذين أثروا بأدبهم بعد الفقر، كما كان من الرواد في نشر فن الموشحات الذي أخذه عن مخترعه مقدم بن معافى القبري، إلا أن أعظم أعماله فهو كتابه «العقد الفريد» الذي كان بمثابة موسوعة ثقافية تبين أحوال الحضارة الإسلامية في عصره.
كما كان ابن عبدربه راوية سمع من بقي بن مخلد وابن وضاح وغيرهما.
توفي ابن عبد ربه في 18 جمادى الأولى 328 هـ، ودُفن في قرطبة، وقد أصيب بالفالج قبل وفاته بأعوام.
copy short url   نسخ
27/06/2017
1946