+ A
A -
لأن هذه العلاقة استثنائية، ينبغي أن تتناول بشكل استثنائي، فهي ليست علاقة تعلم أو دراسة فن الشعر من قبل أطفال ما، في مدرسة ما؛ بل إن تلقي الطفل الموريتاني للإيقاع الشعري يبدأ من قبل وجوده، إن صح التعبير؛ حيث إن الدراسات التربوية العلمية اليوم تثبت أن الجنين- في الرحم- يتأثر بالبيئة الخارجية لأمه، وبطقسها النفسي خصوصا، ومن هنا لابد أن يكون الجنين الموريتاني، يتسرب إليه رنين الشعر، من الجو الخارجي للأسرة، التي قلما تنفك عن تعاطي الشعر، ولو في شكل تعاويذ، وأدعية، ومرويات ترددها الأم، في طقس تَدَيُّنِيٍّ خاص، وحتى لو كانت أمِّية لا تقرأ ولا تكتب، لأن هذه التعاويذ انحدرت إليها-هي الأخرى- مُعَنْعَنَةَ التلقين الوراثي عن أم، عن جدة، عن....
وهنا لا أستبعد أن تكون الصرخة الأولى للمولود الموريتاني، فور خروجه إلى الحياة، منغمة على إيقاع الشعر، مضبوطة الوزن والقافية، مع أنه ما يكاد يطلقها حتى يتلقى الشهادتين، في أذنه الأولى، وربما تعويذة شعرية في الأذن اليسرى، لتعزيز توأمة العلاقة بين الإيمان، والشعر، منذ اللحظة الأولى، لفتح أول صفحة بيضاء من فطرة هذا المولود، وهذا ما أستحضره في قصيدتي: «أمِّي نَشيدُ الكوْن»:
أمِّـي.. رَضَعْتُ أنَايَ.. مِلْءَ حَلِيـبهَـا
فالفـَنُّ.. والإيمــــَانُ.. تَـــوْأمُ مُرْضِعِ
كانتْ تهَدْهِـدْنِي.. بــــذِكْرِ اللهِ.. فِــي
أذْنٍ.. وفِي الأخْــرَى بشِـعْرٍ.. مُـبْدَعِ
«قُلَ اعُـوذ».. مَازَالتْ يُرَتِّلُــهَا دَمِي
ومُعَلقَاتُ الشعْر.. تسْـكُنُ مَسْــــمَعِي!
وهكذا يكون تحلل عصارة القوافي، في حليب الرضيع الموريتاني، شبه حتمي، حيث قال شاعرنا الشنقيطي القديم ابن عينينا الحسني:
لنا العربيةُ الفُصْحَى، وإنَّا
أحقُّ العالمينَ بها انْتفاعا
فمُرْضَعُنا الصغيرُ بها يُناغي
ومُرْضِعُنا تُكَوِّرُها قِنَاعا
والحقيقة أن علاقة الطفل الموريتاني بالشعر، تواصل تعززها المبدئي، حتى عبر الطقوس الاحتفالية بميلاده، فهناك تكريس قوي لغرض «ترقيص الأطفال» العريق في الشعر العربي، منذ الجاهلية الأولى، حيث يمارسه - عندنا- كل من يقرض الشعر من أقرباء الوليد، وأصدقاء أهله...سواء كان ذلك بالشعر الفصيح، أو بالشعر الحساني الشعبي، الذي كان يَسَمِّي هذا الغرضَ قديما بـ«التمْتْلِي»، الذي يعني باللهجة المحلية الترقيص والتدليل، وأصبح يسمى اليوم «البَتُّ» الذي يجمع على «ابتوتة»، تُمَجِّدُ الموْلودَ، وتَتَنَبَّأُ له بمخايل النجابة، والتخلُّقِ بأمْجاد أسرته، وقومه،
وإذا رجعت – في هذا السياق- إلى أسرتي، على سبيل المثال لا الحصر، فسأجد أن «آدب» جدنا الذي تحمل عائلتنا اسمه حتى الآن، كان كلما ولد له ابن يستقلبه شعريا، فور ميلاده، تلقينا وتنشئة، «فجعلها كلمة باقية في عقبه»؛ إذ ربما كان ذلك هو السر وراء كون بيته ظل أحد «بيوتات الشعر» العريقة، في موريتانيا، يتوارثونه كابرا عن كابر.. فعندما يكبر الطفل، وتروى له هذه الطقوس الشعرية الاحتفالية بميلاده، سوف يجد روحه قد ضبطت، على برمجةٍ، كلمةُ السرِّ فيها (شـ عـ ر).
وكلما تقدم به العمر تدريجيا، وخرج إلى تنشئة ما خارج البيت، لن يجد نفسه في أغلب مراحل تكوينه، بعيدا عن الشعر، مهما اتجه إلى الكُتَّابِ والمَحْظَرَةِ، أو إلى الروضة، والمدرسة، فأينما يولي وجهه فثم الشعر...
في التعليم المحظري، هناك من يفضل البداية بتعلم العربية، قبل القرآن، باعتبارها المفتاح لفهم القرآن نفسه، مفضلا اكتسابَها على التفرغ لعبادة الله، كما هو منطوق فتوى العلامة ابن متالي، وحتى لو بدأ بالقرآن، وبغيره من العلوم الدينية، فإن أغلب فنونهما ومعارفهما، منظوم بالشعر، أو حاضر في تفاصيله، ومفاصله، استشهادا، وتمثلا، وتدليلا.. وتربية، وتوجيها، وترفيها، وترويحا....
وفي التعليم العصري، يحضر الشعر- كذلك- أناشيد للطفولة المبكرة في (الروضة التمهيدية)، ومحفوظات في (الابتدائي)، ونصوصا في (الإعدادي...)... وهكذا دواليك، حتى لو ذهب الطالب في (الثانوية)، إلى تخصص علمي، في الرياضيات، أوفي العلوم الطبيعية الأخرى، فقد كان مقرر العربية والشعر يرافقه هناك.. وحتى لو ذهب باختصاصه العلمي البحت، في جامعات بلده، أو حتى في جامعة أجنبية، فإن الشعر سيظل ثقافة اجتماعية عامة، لا انفكاك للفرد الموريتاني عنها...
بالنسبة لي كنت في بداية تعلمي للقراءة المسترسلة للمطبوعات، عندما أفتح كتابا أبدأ بتتبع الصفحات التي فيها شعر، حتى أنتهي منها، لأعود لقراءة الكتاب من أوله إلى آخره، عادة مازالت تلازمني...
الخلاصة: هي أن الشعر قَدَرُ الموريتاني، يتخلق معه، في رحم أمه، ويتقاسمُ معه مَهْده، وثَدْيَه، ومدارجَ صباه، ومَسارحَ لعِبِه ولهْوه، ومَعاهدَ تكوُّنِه، وتَعَلُّمِه، ومراعي حيواناته، يَتَسَوَّرُ عليه حتى مَحاريبَ عبادته، ومكاتبَ عمله، ومراكز تجارته.
copy short url   نسخ
27/06/2017
2615