+ A
A -
وحدة المصير، تعبير يتسوقه العرب في مضامير حزبية تتسع إلى القومية وتضيق حدّ القبلية، بيد أنّها «وحدة» كانت ولا تزال نظرية إلى حدّ بعيد جدا عن أي معنى عملي تفعيلي منذ النكبة.
أذكر أنني سمعت عن وحدة المصير للمرة الأولى يوم كنت طالبا في الخامس الابتدائي، شعرتُ بأنهم يعلموننا في كتب «القومية» شيئا من الكذب الذي يخدّر الشعور القومي الذي يستدعي التضامن مع أخيك العربي، الفلسطيني تحديدا آنذاك. لكنني لا أنكر أن تفسيرهم للتعبير راقني حين وضعوه في قالب «الآلام والآمال المشتركة» أعجبني تبديل حرف مكان حرف وسهّل عليّ حفظ العبارة، ونحن قومٌ نحبّ أن نحفظ من أجل أن ننجح في الاختبارات، أما أن نفهم ونتعلم فذلك شأنٌ آخر.
أقف اليوم وقد بلغتُ من الكبر ما يسمح لي بالكتابة على صفحات هذه الجريدة، وقد غزا الشيب شعر لحيتي بل رأسي، فلا أراني أتذكر من كتب التاريخ المدرسي شيئا، ولا الجغرافيا. صدقني أنا لا أعرف متى كانت معركة مرج دابق ولا أعرف الأسباب الداخلية للحرب العالمية ولا أعرف حدود النمسا على الخريطة. ألا ليت واضعي المناهج اليوم يختصرون كتاب التاريخ إلى ورقة واحدة أو اثنتين عليها أهم المعارك المفصلية وتواريخها فقط.
طوال هذه السنين لم أشعر بوحدة المصير إلا ثلاث مرات، شعرتُ بالتعبير ماثلا أمامي وكأنما بُعث من جدثه يوم كنا في مظاهرة عقب صلاة الفجر، مظاهرة من بضعة وسبعين رجلا خرجوا ودماؤهم تغلي توقا للحرية والكرامة في مملكة الصمت والقمع والموت التي جعل منها نظام الأسد مقبرة لكل ذي صوت. لن يعرف معنى وحدة المصير التي أتحدث عنها من لم يتفكر في فروع المخابرات وسجون الأنظمة البعثية وسطوة المباحث على رقاب العباد، كنا نصرخ خوفا وطمعا وثأرا ونشعر أنّ الرصاصة أقرب إلى الحنجرة من الصرخة وأنّ الموت أقرب من باب البيت.
الموقف الثاني كان عام 2009، للمرة الأولى أسمع زعيما عربيا يقول «حسبي الله ونعم الوكيل» كان حمد بن خليفة آل ثاني يقولها بحرقة أسفا على عدم اكتمال نصاب القمة الطارئة التي دعا إليها من أجل نصرة غزة. عاودني التعبير مرة ثانية وأخذني إلى فصل المدرسة وكأنه أعاد عليّ الدرس من جديد مضيفا هذه المرة أنّ هناك في زعماء العرب من يستحضرك في نفسه أيها المعنى الغائب. وكانت غزة قد تعرضت آنئذ لعدوان يقرح القلوب والأكباد.
وأما ثالثة الأثافي فاليوم، هذا اليوم الذي كانت صبيحته قطيعة خليجية قامت في ظاهرها على مزاعم وادعاءات لا يقبلها عاقل، أما البواطن فيعلمها الله، والراسخون في السياسة. شعرت للمرة الأولى في حياتي، بأنّ مصيري يتحد مع مصير شعب كامل هو الشعب القطريّ، شعور من الرهبة داخلني وأنا أستقبل الأخبار أولا بأول، أصابني شيء من التبلد وذهب بي الهاجس بعيدا إلى حصار الشعب قبل خمسة عشر قرنا، هل سنجوع معا؟ هل سنُحاصَر معا؟ لا سمح الله. شعرت بالأسف لهذه القطيعة التي كان ينبغي أن تكون موجهة للعدو لا للأخ القريب. لكن عزائي كان ذلك الشعور العذب بوحدة المصير. يبدو أنه لفظٌ لا يتجلى معناه إلا في عظائم الأمور.
وعظائم الأمور في عظائم الأيام تقتضي قولا ثقيلا، لله وللتاريخ وللأمانة وللأجيال القادمة التي ستكون أكثر حداثة وانغماسا في العالم الرقمي.
والحال هذه فإن كلامي ليس لأصحاب المعرّفات الوهمية والحسابات الاستخباراتية، أولئك يباعون ويشترون في كل وقت، إنما لك أنت أيها القارئ المثقف، وللإعلامي المخضرم، ولكاتب الصحيفة العريقة وللمفكر الفيلسوف الذي يتابعه الآلاف على منصات التواصل، وللشاعر والرياضي والدبلوماسي. هل سألت نفسك ماذا اقترفت قطر حتى استحقت النبذ بكل هذا التجييش وكل هذا الحشد؟
هل سألت نفسك لماذا لم نشاهد ضيفا قطريا واحدا على الشاشات التي اعتمدت قبل رواية المخترقين لوكالة الأنباء القطرية ولم تعتمد تصريحات الجهات الرسمية في قطر؟
من شأن الإعلام الحر أن يستعرض وجهات النظر كلها، تذكّر معي أيها القارئ مجزرة الكيماوي التي ارتكبها بشار الأسد عام 2013. ألا تذكر شريف شحادة يصول ويجول على كبرى القنوات العربية مروجا للرأي «الآخر»؟! وغيره كثيرون ممن يحملون وجهة نظر النظام السوري ويقولون إن النظام ليس مسؤولا عن هذه الفظائع وإن «الإرهابيين» هم من أقدموا عليها. مع أنّ الدلائل المنطقية تقول إن الإرهابيين لا سبيل لديهم إلى السلاح الكيماوي والرؤوس الصاروخية التي يمكنها حمله. الجميع يعلم من يملك مركز البحوث العلمية ومن يملك الصواريخ والطائرات. وحتى أنت أيها القارئ ربما حدست بمنفذ العملية من قبل أن ترى نتائج التحقيقات الدولية التي أشارت بلا لبس إلى أنّ الذئب بريء من دم يوسف.
ولعلك تذكر أيضا مجزرة الشجاعية، وتتذكر أفيخاي أدرعي ضيفا على شاشات العرب الكبيرة ينافح عن وجهة النظر الصهيونية، ولعل مذيعة هنا أو هناك قالت لأدرعي ولشحادة ولغيرهما: (لنفترض جدلا أن كلامك صحيح) وهذه عبارة يستخدمها المذيعون عادة من أجل أن يتمكنوا من طرح السؤال الثاني وإيقاف الدوران في حلقة مفرغة هي عبارة عن الفرضية ونقضها ثم نقض النقض ونقض نقض النقض وهكذا...
لكن ما يوجعني حقا أيها القارئ هو أنّ الشاشات التي اتسعت لرأي أفيخاي أدرعي وشريف شحادة ضاقت عن رأي مواطن أو صحفي أو مسؤول قطري يدلي بدلو بلاده في قضية تصريحات الشيخ تميم المفبركة وحتى في قضية قطع العلاقات الدبلوماسية. وما يوجع أكثر هو أنّ إعلاميين كبارا لهم تاريخهم المشهود ولهم مكانتهم الراقية في نفوس العرب انحدروا في مدارج السقوط وحرّفوا الكلم عن مواضعه فلم يكتفوا بتغييب الرواية الرسمية القطرية، وحظر أي ضيف قطري من المشاركة، بل صاروا يشكلون المصطلحات على هواهم، فهذا يقول «ارتماء قطر في أحضان إيران» وذاك يقول «تآمر قطر» وآخر يسميها «خيانة قطر» وكأنّ قطر هي التي احتلت فلسطين وقتلت ربع الشعب السوري ونهبت خيرات الوطن العربي!
أما في قناة الجزيرة فالأمر مختلف. جاءت الأخبار عن تسريبات بريد السفير الإماراتي في واشنطن فنشرنا الخبر بعد أن أكدت المتحدثة باسم السّفارة أن بريد «الهوتميل» هذا يعود للسفير يوسف العتيبة. بحثنا عن ضيف إماراتي ليؤكد أو ينفي فلم يستجب لنا أحد، وفي برنامجنا الحواري «ما وراء الخبر» أشار زميلنا محمد كريشان إلى أنّ غياب ضيفٍ إماراتي يستوجب أن يقوم هو نفسه بوضع نفسه محلّ الإمارات وتوجيه أسئلة للضيوف الآخرين من وجهة نظر أبوظبي وراح يقول للضيف القطري: أين المشكلة في تسريبات السفير؟ وما العيب في أن يعمد السفير إلى العلاقات العامة من أجل توطيد علاقات بلاده؟ وهكذا. ذاك شعارنا منذ البدء: الرأي والرأي الآخر. شعارٌ بعيد كل البعد عن صحيفة عريقة قامرت بسمعتها وتاريخها لتنشر خبرا عن شخصية لا وجود لها يسمونها سعود بن ناصر آل ثاني؟ ترى هل سألت نفسها عن صاحب الصورة المدّعاة لتلك الشخصية؟ وعن صاحب الصوت الذي يتحدث بلهجة أقرب ما تكون إلى العراقية؟ وهل سألت من أين لعزمي بشارة طائرة خاصة يرسلها لتحمل إليه الناس من لندن إلى الدوحة؟ نعم يا عزيزي تلك كلها ادعاءات تصدرت واحدة من أعرق صحف العرب، تستكتب أثقل الأقلام وأمرس العقول.
إذا كان الاقتراب من إيران– حتى ولو بتصريحات مفبركة- خيانة عظمى في أعرافهم، فلماذا يحتضنون السيسي الذي أعلن جهارا نهارا دعمه لبشار الأسد وتبادل معه إرسال الوفود الوزارية والفنية مؤخرا؟ هل هناك اقترابٌ عمليٌّ من إيران أكثر من دعم حليفها في دمشق؟!
قبل عام ونيف شهدت المنطقة انقلابا فاشلا، سارعت قنوات عربية كبرى لتبني الانقلاب وبث ما يعضده من أخبار لا يُبنى عليها إلا آمال كتابها ورغباتهم الجامحة في التخلص من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. القنوات– إياها– جعلت من أردوغان مهزوما هاربا إلى ألمانيا على متن طائرة عسكرية، ضاربة عرض الحائط بميثاق العمل الإعلامي، مضللة متابعيها بجبل من الفصام. وأنت أيها الذي تهاجم قطر، هل سألت نفسك كيف تستقي أخبارك من قنوات كتلك؟ وهل سألتها عن سرّ هذه العداوة لتركيا وأردوغان؟
إن كنت لا تزال معي فسأروي لك قصة قصيرة وقعت عام تسعة وسبعين من القرن الماضي. شهدت إحدى الدول المجاورة ثورة سُمّيت «الثورة الإسلامية»، أدرك صدام حسين من بعدها أنه وقع بين فكي كماشة: الخميني من جهة وحافظ الأسد من جهة أخرى، اتسعت الهوّة بين دمشق وبغداد وأصبح باطن العداء ظاهرا وظاهره أبعد من أن يُستصلح. أصبحت إدارة الهجرة والجوازات في بغداد تمنح مواطنيها جوازات مكتوبا عليها «يسمح لحامله بدخول كل البلاد العربية عدا سوريا» وفي دمشق يكتبون «عدا العراق»... هل سألت نفسك لماذا رويت عليك تلك القصة؟
إذا كنتَ قد سألت نفسك وأجبت فقد أحسنت، وإن كنت قد ألحقت راحلتك بالرَّكب دون أن تسأل فتنبّه إلى الذين توحد مصيرك معهم وتذكر أنّ لنا وقفة أمام الله تعالى. وثَمّ السؤال. أما أنا فقد سألت نفسي لماذا كتبت هذا المقال وأرسلته إلى صحيفة الوطن.
copy short url   نسخ
06/06/2017
5774