+ A
A -
الكتاب الأول بالنسبة لأي مبدع هو بوابة الدخول إلى عالم الإبداع، أو أنه بمثابة الرقصة الأولى على خريطة المبدعين، الكتاب الأول وإن كان أحيانا لا يخلو من الأخطاء، أخطاء القلق والعلثمة على منصة الحياة، إلا أنه حلم يأخذك إلى الدهشة والبوح الشفيف.
الوطن، التقت كوكبة من المبدعين من شعراء وقاصين وروائيين، وسألتهم عن الكتاب الأول من اصداراتهم ماذا يعني لهم، وكيف كان وقعه عليهم حال صدوره، فكانت هذه الرؤى والاجابات التي لا تخلو من المكاشفة الصريحة.
يقول الروائي قاسم توفيق عن قصة أول كتاب له «آن لنا أن نفرح – قصص قصيرة»، حلم، هو حلم من تلك التي كانت تملأ حياتنا ولا تبعث بأية علامة توحي بأنها قادرة على التحقق. كانت أيام قيظ دائم، فقر قريب من حد العدم، وجهل مستوطن. في تلك الأيام، في الجامعة كنت قد اكتفيت وقنعت بما يُنشر لي من قصص قصيرة في ملاحق الصحف الثقافية، ولم أكن أجرؤ على التفكير في جمع هذه القصص في كتاب. دور النشر كانت شبه معدومة، والمؤسسات الثقافية القليلة لا تعدو غير منابر للسياسة.
عندما يقوم ثلاثة من ادباء الأردن الكبار في بذل الكثير من اجل إصدار مجموعة قصصية مشتركة «بدر عبد الحق، خليل السواحري، فخري قعوار» لا يمكن أن ترقى فكرة ان اصدر مجموعة خاصة بي إلى مستوى الحلم. في تلك الأوقات اقترح احد الأصدقاء فكرة أن نجمع كلفة طباعة كتاب ليّ، اعترضت على الفكرة لأني أعرف بأني لن أقدر أن أشارك بهذا المشروع إلا بقصصي وهذا أمر كان يتسبب لي بحرج كبير.
كان ما هو كائن جمع الأصدقاء وهم كثر مبلغ المائة وعشرة دنانير التي طلبها منا صاحب مطبعة الشرق في عمان مقابل طباعة ألف نسخة. شارك كل واحد من الأصدقاء بما يقدر عليه، ميسور الحال منهم دفع عشرة دنانير، أقلهم مشاركة كان أنا لأني لم أقدر أن أدفع أكثر من دينارين. وعندما صدرت المجموعة التي صار عنوانها بعد هذه المبادرة من الأصدقاء «آن لنا أن نفرح». أعطيت كل صديق نسخاً بقيمة ما دفعه، وتم توزيع المجموعة بحيث نفدت نسخها في الجامعة في أيام قليلة. ما عناه لي هذا الكتاب كان شعوري بالأمان لأني أعيش بين هذا النوع من البشر، وأعتقد بأني لا زلت أعيش هذا الإيمان لذلك لم أتوقف عن الكتابة منذ ذلك الوقت.
من جهته الشاعر والإعلامي غازي الذيبة، يريد أن يفرح بأخطائه الجميلة في كتابه الأول، فقال: الكتاب الأول، حين تمسه بيديك، يشبه الغمزة، غمزة لفتاة تبتعد عن باب المدرسة وحدها، فتراه وتطرق برأسك خجلا حين تحدث فيك لبرهة، ثم تلمحك تسرق النظر فتغمزك بعينها، وتبتسم ابتسامة خجلى، لتذهب، فيما انت تبقى أياما وليالي، مصابا بتلك العين وذاك الرمش. أول كتاب نشرته وحصلت على نسخته الأولى، اصابني بالدهشة، فرحت، ووقعت في غرامه، بقيت افكر بما سيجلبه لي من اهتمام. لكنه لم يجلب لي شيئا، بل أصابني بالقلق، وجعلني أشعر بعدها بالأسف على ما وقع عليه من ظلم، لما ألم به من أخطاء طباعية، وعدم تصحيح اتحاد الكتاب العرب في دمشق له. كان الكتاب بعنوان جمل منسية، وكان النسيان لاحقا حليفه، وإن كنت احن هذه الايام لإعادة طباعته، وتصحيح ما هجم عليه من إهمال الاتحاد. لمست فعلا، تلك الغمزة الحارقة حين وقع بين يدي، وارقتني، ولا اظن أن هناك رائحة أو احساسا أجمل من تلك اللحظة التي امسكت فيها كتابي الأول، سوى ولوج ولدي الأول للحياة. وأكثر ما أحتاجه اليوم هو كتاب أول، كتاب أقبض على اخطائه وبساطتي فيه، وبراءة الأطفال في عيني، وسذاجتي إن شت، وأحلامي بالانتباه، سئمت تلك الابتسامة الرسمية والمعلبة لأصحاب الكتب، وهم يوقعونها، أريد ان أرى كتابا اول لي، بلا حفل توقيع، وبلا ياقة قميص منشاة، اجلس في مقهى صغير، أقرأ صفحاته بشغف، وأصاب بالأرق لما ورد فيه من التباس واخطاء، اريد ان أفرح بأخطائي، الاخطاء جميلة في الكتاب الاول، ودافئة، تجعلني اشعر بحاجتي إلى كتابة بلا اخطاء، وإلى انتظار كتاب ثان بشغف ودفء يسببان لي غصة جميلة في الحلق، لم اعد اشعر بها اليوم حين يصدر لي كتاب.
فيما يرى الشاعر موسى الكسواني، أن حالة الترقب التي يعيشها الكاتب قبل صدور كتابه تظل باعثة على القلق والأرق، ذلك أن الكتاب يجب أن يخرج بلا أخطاء أو أي شائبة يمكنها أن تجعله محرجا أمام زملائه الكتاب أو النقاد تماما مثلما يترقب مولوده الذي يتمناه بلا نواقص أو أخطاء طبية يمكن أن تظهره معاقا لذلك فإن أولى خطواته نحو التقاطه للكتاب بالضرورة سوف تكون تفقده للغلاف وللصفحات يقلبها ويقلبها ثم يعيد نظرته نحو الغلاف مرارا وتكرارا حتى يتيقن ان امور الغلاف كما يحب وكذلك في تفقده لكتاباته بتصفح سريع كذلك كون هذه اللحظة ذات اختلاط مركب بين الخوف والفرح والدهشة، أما إن وجد الكاتب خطأ ما فإن الأمور سريعا سوف تنقلب فتثير فيه كثيرا من الألم والحزن وربما يضطر إلى تغيير الطباعة بسبب خطأ بسيط. هذا بالنسبة للمهتمين إبداعيا أو لغويا، أما بالنسبة لكثير ممن لا تعنيهم اللغة وتصاريفها فإنه يكتفي بالنظر إلى الصورة ثم لا تسعه الفرحة بعد ذلك، اما بالنسبة لي فإني أكون سعيدا جدا لو وجدت الأمور قد اكتملت كما احب وإلا فإن الحزن سوف يسيطر على نفسي كثيرا خاصة إذا وجدت خطا مطبعيا يعطي معنى مخالفا أو مختلفا عما أعنيه.
أما الشاعرة الفلسطينية مجد يعقوب فتحدثت عن إصدارها الأول قائلة: صدرت المجموعة الشعرية الأولى 2009 بعنوان (جموح)، وكنت أحمل مشاعر مرتبكة وتخوفا من ردود الفعل عما تحتويه من نصوص وقصائد، علماً أني كنت قد نشرت بعض النصوص في عمر مبكر ببعض الصحف الشبابية في سوريا، لكن كان وقع إصدار المجموعة الشعرية الأولى وقعا مختلفا فهي صنفتني كشاعرة وربما لست كذلك ووضعتني بصفوف الكاتبات وربما لم أكن كذلك إلا أن الأمر الإيجابي أن الإصدار الأول كان دافعاً للاشتغال على النصوص أكثر والظهور إلى الوسط الثقافي وتقدير أين أنا.. وسط المشهد.
القاص والإعلامي جعفر العقيلي عن حلمه الأول في الإصدار قال: أن أحملَ كتابي الأول بين يديّ كان حلماً يبدو بالنسبة لي عصيّ التحقّق، رغم أنني دفعت به للمطبعة. كان ذلك في صيف 1995 وكان كتابي ذاك مجموعة شعرية بعنوان «للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى»، حصلت على دعم من وزارة الثقافة بإصدارها. ورغم أنني كنتُ أحفظ جميع نصوصي وقصائدي عن ظهر حبّ، وكنت أقدمها أمام الجمهور في المهرجانات والأمسيات الشعرية، إلا أنني كنت أدرك أن مصافحة حروفي بصرياً على صفحات الكتاب لها وقع آخر، هو أقرب إلى لقاء بين محبَّين بعد شغف وطول انتظار.
وأخيراً جاء اليوم الموعود؛ وكنت قبل الثامنة صباحاً أقف أمام باب المطبعة (البهجة)، في إربد بانتظار قدوم صاحبها أكرم سلامة. وكانت الدقائق تمرّ بطيئة أكثر مما ينبغي، وأكثر مما أحتمل، وفي اللحظة الحاسمة جاء الكتاب بغلافه الأصفر الذي بدا مفاجئاً لي وصادماً، ذلك أن الصديق التشكيلي محمد العامري الذي أذن لي باستخدام إحدى لوحاته على غلاف المجموعة كان قد اقترح أن يكون لون الغلاف في محيط اللوحة أبيض، لكنني استخسرتُ أن يكون اللون أبيض في الوقت الذي تظهر فيه كتب أصدقائي بألوان أخرى، واستقر رأيي على عدم سماع نصيحة العامري مفضلاً لوناً قريباً من البرتقالي كان قد ظهر به كتاب صديقتي القاصة مجدولين أبو الرب «تشرين لم يزل»، لكن الغلاف ظهر أصفر، أصفر، أصفر.. بشكل فاقع، جعله مميزاً على أيّ رفّ يوضع عليه، لكن الحسرة ما تزال تأكل قلبي على هذا الخيار. بشأن قصائدي في تلك المجموعة، وهي الإصدار الشعري اليتيم لي، فأنا ما أزال راضياً عنها، وسعيداً بما قدمته فيها، وحين أقرأ الآن مقاطع منها أمام أصدقائي أفاجأ أنني كنت ذلك الشاعر الذي كنته؛ الشاعر الذي ذهب إلى القصة بمحض إرادته، لكنّ حنيناً جارفاً إلى الشعر ما زال يسكنه ويقيم فيه.
copy short url   نسخ
29/05/2017
1897