+ A
A -
بقلم : سنان المسلماني
كلماته حولت السكون إلى صخب، قطعت شريط أحلامي «أنا آت يا حبيبتي أنا آت، لا تذهبي بعيدا، لا تذهبي، أين أنت».
هكذا صرخ ماجد أو هذى، كان واقفا على صدر السفينة والليل يأكل معالم وجهه أو هكذا خيل إليّ، ناديته صرخت فيه (عد إلى هنا، ماذا تفعل؟) بدا لي أنه لم يسمع كلماتي، وجهه كان مسمراًّ وعينه تبحث في الأفق عن وجه ما، يده الممدودة توحي بأنه يستعد ليحتضن شخصا، أفكاري كانت مشوشة، النعاس أطبق على أجفاني، وجسدي به رغبة جامحة للقفز من مكاني إلى مكانه، كان يجب أن أجره، فكرت أني لو هززته ربما استفاق من هذيانه، لكن الأثقال التي تسحب جسدي إلى ألواح سطح السفينة كانت من القوة بحيث لم أقدر على مقاومتها، كان لايزال ينادي حبيبته.
الليل الهامد يتحول، ينقلب إلى طقس مجنون. كنت أدرك أنه مازال في دائرة أحزانه بعد وفاة زوجته، كان كالمهووس بها، حديثه لم ينقطع عنها (هي الدانة التي ظفرت بها، لم تكن أقصى أمانيّ أن أظفر بلؤلؤة كمعظم البحارة، كانت أمانيّ أن أحظى بها هي، أعمارنا متقاربة، أرواحنا تلاقت منذ الوهلة الأولى، منذ الشهقة الأولى، حياؤها النابض كان يشعلني بالشعر).
ظننت لوهلة أن الأرواح التي سكنت البحر هي التي أيقظته من فراشه وسحرته، أوقدت في روحه نار العشق، فصحا أو غاب في حضرة طقسها، ففاضت روحه بالحزن، هكذا صور لي عقلي المشوش ساعتها.
التفتُ إلى بقية البحارة التعبين وهم في موتهم الوقتي، خفتُ أن يوقظهم صراخه، كان النهار والماء والملح والمحار وأوامر النوخذة وقلة الرزق قد تجمعت كلها لتأكل من أجسادهم وتضني أرواحهم، تقلب بعضهم على هذيان ماجد وصراخه، ومات بعضهم في نومه فلم يفلت من كفنه، ناديته مرة أخرى (تعال يا ماجد هداك الله، دع عنك الأوهام، تعال ونم).
كانت المسافة التي تفصلني عنه تقاس بالأذرع لكنها بدت ساعتها وكأنها وحدة زمنية دهرية والثواني والأذرع تعدو في اتجاهين معكوسين عدوا بطيئا مخنوقا بالرطوبة تارة وبالسكون الذي ينتفض مذعورا من هذيانه تارة أخرى.
جاهدتُ لكي أقف، استندتُ على يديّ ورفعت رأسي أطلقتُ جذعي في سماء الرطوبة وخطوت تجاهه، كان ينشد ساعتها (إنسيّة أم هذه حوريّة ملأ البسيطة نورها فتقسّما) كان ما زال على شروده فحرت فيه، خاطبته (يا ماجد اتق الله في نفسك، من ذهب لا يعود والميت لا تجوز عليه غير الرحمة) لم يلتفت إليّ كان على ذهوله، إنما بدا لي أنه أفاق حين رد بجملة ملؤها الغصة (اسمع يا حمد إنها تناديني) قلت له (من هي التي تناديك؟) قال (هي يا حمد، تناديني) حوقلت وبسملت، تمتمت (لقد ذهب الحب بعقله) ردّ وكأنه سمع ما أضمرت (تسبي العقول بدلّها وجمالها.. فلكم وكم تركت فؤادي هائما) قلت (يعوضك الله خيرا، هذه الدنيا لا تبقى على حال). أحسست بضعف منطقي أمام مأساته، ما هذا الذي أقوله؟ كلمات حفظناها عن ظهر قلب، ماذا تجدي أمام هذا القلب المثلوم، لكنه لم يعلق على كلامي، تركني في حيرتي من أمره وتقدم خطوتين إلى الأمام، انتقلت غصته إلى حلقي، ماذا ينوي أن يفعل هذا المتعب؟ كان السؤال الذي أكل روحي (إنها تدعوني أن أذهب إليها، اسمع يا حمد، اسمع، ها هو صوتها يأتيني من هناك، ألا تسمع؟)..
أشار بإصبعه المرتعش إلى الظلمة، إلى بقعة في البحر وقال (هناك، انظر صوتها يأتي من هناك) خيل إليّ ساعتها أنني سمعت صوتا ينادي وألفاظا تعبر الرطوبة التي تزاوجت والليل، استعذت بالله (لا بد أنها أصوات الجن، فهذه البحار مسكونة بهم، لكن هل وهمت أنا أيضا، هل سحرتني الجن) أفقت من ظنوني، كان ينظر إلى وجهي وقد اعترتني الدهشة وعقد لساني الخوف، قال (ماذا بك؟) قلت (أظنني وهمت أو سُحرتُ، لأنني للحظة ظننت أن صوتا من الظلمة قد شق الليل وعبر إليّ) قال (هل أنت واثق؟) سكت لأنني لا أستطيع أن أؤكد له ما إذا كنت فعلا قد سمعتُ ذاك الصوت أم هي مجرّد أوهام ساقتها الليلة بمتاعبها أو النهار بعذاباته، أم كان ذلك من أثر هذيانه، ابتسامته التي ارتسمت على وجهه كشفت معنى سؤاله، لقد كنت في أقصى حالات التشكك والارتباك وكان هو قد عبر جسر الظنون إلى اليقين.
هذا السكون الذي خيم على روحه المضطربة وأزاح العذاب وشع بالثقة دلّ على أنه كسر حاجز البعد عن محبوبته عرف السبيل. كان يتنشق الهواء بقوة ويطلقه بتلذذ مرات عدة، كمن يحاول اختزان السماوات بكواكبها وأجرامها في جسده، مدّ ذراعيه في الهواء كما طير يحاول الطيران ثم أدارهما وقوسهما كمن يحاول ضم شيء لا يرى، ماذا يفعل؟ هل غاب في حضرة من يهوى، يا إلهي، يجب أن أوقظه لئلا نفقده ويفقد نفسه (ماجد) وضعتُ يدي على كتفه، أزاحها برفق وقال (دعني قليلا وسآتي للنوم) اطمأنّت نفسي للهدوء البادي عليه، أدرت ظهري لآلامه وقصدتُ مكان نومي كان هو قد أطلق جناحيه في الهواء وطار، صوت ارتطام جسده بالماء الساكن سمّرني في مكاني، التفتُ كمن ثقبتهُ رصاصة وأدرك الرامي، كان الماء قد ابتلع الجسد المحلّق، أخفى خطيئته وسكن، وثبت إلى صدر السفينة وأنا أصرخ، لم أكن أعي ما أقول، الموتى تركوا أكفانهم، كانوا على بعد ذراع من صراخي وعويلي، السؤال الذي لهجت به ألسنتهم (ماذا حدث؟) سمعته آلاف المرات وأنا غارق في ذهولي، غارق في نحيبي، ماذا حدث ولماذا؟ سؤالان تصعب الإجابة عنهما معا، كثيرون قفزوا ورائي تلك الليلة لإنقاذي ولإنقاذ ماجد، كان قد تلاشى في لجة الظلمة، ورغم كل نداءاتنا وتوسلاتنا إلا أنّ البحر لم يفصح عن مكانه، وحتى كائناته تعلّمت منه الصمت فلم تبح أبدا بأسراره، كان الصمت هو الملك السائد، حامل صولجان القهر، لم يهتز عرشه لصراخنا وأدمُعنا وعذاباتنا أبدا. ظللنا نبحث كالمجانين لعدة أيام علنا نجده على أيّ حال كان.
يعدو النهار عدو سلحفاة مثقلة بالزمن المر، خبرنا طعم الملح الحقيقي في قلوبنا، ظلت الغصة تلازمني والندم يأكل عمري، لماذا صدقت السكون البادي عليه؟ لماذا خدعت وكأنني لا أعرف الرجل، لا أعلم صدق حبه وعذابه وتوقه لمحبوبته، كل هذا العمر، كل تلك اللحظات التي قضيناها لم تحتشد ساعتها كنذير للغافل فتوقظه من غفلته، آه لكل تلك الذكريات وطعمها الحارق، لو أني أمسكت به ولم أفلته، لماذا سمحت له أن يزيح يدي عن كتفه، فيزيح هذا العمر بكل أحزانه وأفراحه، بكل لياليه ونهاراته؟ ظلت الأعين والألسن تسوطني بأسئلتها القاتلة، أين مضى ماجد؟ ما الذي حدثك به تلك الليلة؟ لماذا لم تمسك به قبل أن يدفع بنفسه إلى البحر؟ فأعجز عن الرد، يخونني لساني وتخور قواي ويحتبس النبض في قلبي فلا أقوى على مجاهدة الدمعة، ماذا يمكن أن أقول؟ وهل من الممكن إقناعهم بما أعجز أنا عن تصديقه؟ يا إلهي لماذا تتدفق صور طفولتنا البائسة إلى ذاكرتي كأمواج احترفت التقدم لا غير، هذا الزبد الذي يعتمر الروح يتحول إلى طبقة من الملح لا يمكن كشطها أو غسلها، أصابعه الصغيرة تعبر الماضي والظلمة والبحر وترتسم صورا واضحة المعالم تمتد لتقبض على وجهي أو تنغرس في عينيّ، رائحته تعبق في المكان، تمتماته هذيان لا يغادر، طقس مجنون لا يفتر، يعلو حينا وينخفض حينا.
ظللت لأيام بلياليها والدوار لا يفارقني، لماذا تخليت عنه؟ لماذا تركته لقمة سائغة لجنيات البحر، لقلق حزين في مواجهة الغربة هل كان في إمكاني ليلتها قصقصة أجنحته ومنعه من الطيران، حتى لو اضطررت إلى ربطه في الصاري، أو دفعه إلى خن السفينة والإبقاء عليه حتى الصباح. غادر الموج بزبده، والنوارس التهمت قواقع أرواحنا، لم تشفع لنا المخلوقات التي صاحبتنا منذ طفولتنا فقدان صاحبنا والأرض بنخيلها وعيونها ودروبها، والبيوت بحنين نوافذها وأسوارها واتكاء ظلالها ازورّت عنا، كان بإمكاننا رؤية الأسى الذي تجسد ماردا جالسا في زوايا الأمكنة مطرقا يستنطق دفقات الهواء التي تتضوع في الدروب عن الأرواح التي تسبح في إهابه.
لم يعد للدكاكين والمقاهي القليلة زهوها وتفردها، لم تعد للأحاديث الحميمة وداعتها ولا للضحكات مشاغباتها، لم يعد للحياة طعم الرضا، والطرق التي احترفت هضم خطواتنا الموقعة أحيانا والراكضة أو القلقة أحيانا أخرى ما عادت تحفل بمن دبّ، غدت تمجنا، تقذفنا خارج رحم زمانها. كان للثواني التي توقع الزمن المرّ دبيبها وثقلها، كان لها وجودها المستقلّ، وكان للحوادث الصغيرة التي تتقاطع مع الزمن كيانها الهش الذي يعبر كالغيمة الفارغة من الحياة، إلا حادثا واحدا متفرّدا، كان بمثابة الغيمة التي تنزّ الألم. ففي صبيحة يوم مشبع بالسكون خدش جسد الطقس بصوت لوّنه الملح بالجفاف وغادرته الرطوبة وشدت أوتاره كحبال أشرعة حبلى، أتى حاملا خبرا للأرض العطشى، حكى (كنا قد أنخنا مركبنا بعد أن هدّه وهدّنا تعب الرزق على شاطئ جزيرة، فاستراحت أشرعتنا وأضلاع مركبنا عن السعي، كانت الأرض تنبئ زوارها بأن الحياة تدبُّ على أقدام بآلاف الطيور التي احتشدت ترحب بضيوفها هازجة بآلاف الأصوات، ومثلما رفلت الحياة في ثوب حشودها كان الموت يغفو طاويا جناح الرهبة والغموض، عاكفا على سبر أسراره في خور صغير بأطراف الأرض. لقد كان الموت يرسم خطوط خرابه في جسد مجلل بالصمت والسكينة، مسجى هناك في بقعة حاضنة كرحم الأم. لقد اختطف الموت العينين وحرمهما من رؤية السماء، لم نعرف الرجل، ما من علامة دلّت عليه، كل ما وجدناه كانت هذه التميمة المربوطة على زنده، لقد دفنّاه في الأرض التي استقبلته كأم).
تلاطمت بقلبي آلاف الأمواج، كان لهديرها صوت البكاء، صوت الفقد، هذه التميمة أعرفها، لم أحتج لأن أفتح مغاليق أوراقها المطفأة وأطّلع على العذاب، كانت تلك تميمة ماجد.
copy short url   نسخ
26/04/2017
1812