+ A
A -
قبل أن ينعطف الطريق جنوبا تجاه قصر المؤتمرات على الشاطئ الشرقي للبحر الميت، حيث تعقد مؤتمرات دولية وعربية، يقف أحد باعة الخضراوات أمام بسطته التي يقول إن دخلها لا يكفي متطلبات الأسرة الكبيرة. خلف الرجل حي بائس يشير إلى حالة الافتراق الصارخة بين عالمين: عالم بسياراته الفارهة وأبهة عماراته الشاهقة، وآخر يمثل الحقيقة بكل ما فيها من صدمة. هذا الجوار بدأ منذ سنوات طويلة، وبدأ بضخ ترويجي عن أحلام العيش في كنف السلام الذي حلت أوهامه مع معاهدة السلام مع إسرائيل. أما على الشاطئ الغربي الذي ترقبه عين بائع الخضراوات الفقير بكل أسى، فترتفع عمارات للمستوطنين اليهود الذين يطربهم هذا التباين الصارخ على الجانب الشرقي من البحيرة، التي تقول الصهيونية إنها بحيرة داخلية تفصل بين أرض انتزعتها بالقوة وأخرى لها مكانة خاصة في المعتقد الذي يقوم على «هذه الضفة لنا وتلك أيضا».
هنا؛ في الجانب الشرقي، ثمة بنى سياحية ومعالم لا تمت بصلة للجوار البائس، الذي تتحدث المؤتمرات باسمه وتعلي الحديث عن أهميته بصفته الشريان الحقيقي للضرائب التي تشكل نسبة عالية جدا من الدخل الإجمالي للبلاد.
يقول بائع الخضراوات وهو يعدد أنواع السيارات الفارهة ما معناه: هناك على مرمى نظرة، حدائق غنّاء ومسابح لأهل السعادة: وزراء ونواب وأغنياء من كل الأجناس يمرون من هنا مسرعين لا يلتفتون إلى حين البائس الذي استغرب كيف له أن يستمر طويلا في مواجهة الأُبّهة. أقصد كيف له أن لا يموت قهرا؟!
يثير هذا البائع مواجع لا تنتهي. لكنه مقتنع تماما بأن نصيبه ان يبقى يرقب هذا التباين الصارخ ويرصده، مكتفيا بما ييسر له الله من دخل. ويقول: الحمد لله على شمّة الهواء.
إنه يلخص الحال التي لا تبدو حالا إنسانية ليتسنّى وصفها. إنه فقر تحار المصطلحات في إيجاد مكانة له على سلّمها الطويل.
هذا المعدم يقول إن أهل المنطقة هجروا الزراعة بفعل الخسائر المتلاحقة والديون المتراكمة، الأمر الذي تؤكده احصائيات رسمية وأهلية تقدر ان هجرة الزراعة في الغور الذي يسمى سلة غذاء الأردن. اضطر الناس الذين لم يعرفوا سوى الزراعة مهنة إلى بيع أراضيهم لتسديد القروض أو تأجير أراضيهم لشركات زراعية كبرى، لا هم لها إلا تحقيق الربح عبر ابتزاز العمال بأجور قليلة. الطريف ان أصحاب الأرض يؤجرونها ويعودون ليعملوا أُجراء في زراعة أراضيهم.
كلَّ الناس هنا الشكوى ومراجعة دوائر الحكومة التي تتراكم لديها ملفات ضخمة مخصصة لمأساة الغور التي لا حلّ لها في المدى المنظور.
ومن طرائف «التنمية» في العالم الثالث الذي ننتمي له بجدارة، أن يكون هناك متخصصون أردنيون يشاركون في إعداد تقارير دولية رفيعة المستوى عن التنمية البشرية، في المنطقة العربية عموما والأردن، خصوصا، تأتي بهم الأقدار ليتسلموا مسؤولية قطاعات تنموية، بينما تقول خواتيم أعمالهم إن هناك شيزوفرينيا بين القول والفعل. مرّت على وزارات ومؤسسات تنموية أردنية أسماء برعت في تشخيص المشكلات عن بعد، لكنها تخفق اذا ما تصدت لعلاج المشكلة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في إشباع أسماعنا ببرامج لا تطبيق لها ولن يكون.
ولأنه لا استجابة لنداءات الاستغاثة التي تطلقها سلة الغذاء الأردني، فإن الأمر يستدرج رد فعل لا محالة. أهون الشرين ان يقتصر حديث الناس عن ارتفاع معدل الفقر خلال العقود الماضية، إضافة إلى غياب العدالة وتركز الثروة، وعدم المساواة. هذه التعابير محض مصطلحات عامة لا تسمن ولا تغني من جوع الغالبية الفقيرة التي تحمل اسم «الغور».
ربما يكون الغور الأردني أنموذجا لمنطقة عربية تختزل حال الفقراء العرب الذين يعرفون ماذا تعني فجوة الدخل والثروة، لأنهم يعيشون على هامش الحياة، وبعائد عمل لا يذكر. ومن اللافت ما ذهب إليه أحد تقارير التنمية البشرية في الحديث عما اسماه بـ«سطوة المدينة» حيث يسود نمط تخصيص الاستثمارات العامة، قائلًا إن الإنفاق العام يعكس على ما يبدو «حقائق سياسية وليس الرغبة في تقليص الفوارق بين الأقاليم».
هنا؛ في الغور، لا يعرف العموم معنى الامتيازات والخدمات الحكومية المميزة التي تحظى بها الأحياء الراقية في عمان وسواها من المدن. هنا يسألون عن التأمين الصحي والدخل الذي يصفونه «دخل الستر» أي ذاك الحد الذي لا يجعلك معوزا تعيش في فاقة. الناس يصيغون أحلامهم على مقاساتهم وهم لا ينافسون أيّا كان في نعمة الله التي حباها له. هم حتى لا ينظرون إلى معالم الترف المجاورة بعين الحسد أو أنها تستفز لديهم الإحساس بالمظلومية. هم قانعون بما وجدوا فيه من خلل. لكن أيّا لا يستطيع أن يجادل بأن هذا الحال سيستمر طويلا.
copy short url   نسخ
31/03/2017
804