+ A
A -
حين أعود إلى عمل أدبي أو فني سواء كان شعريا أو روائيا أو موسيقيا أو غير ذلك من إبداعات وفنون، أكتشف أشياء لم أنتبه إلى حضورها وأثرها في القراءة الأولى لها، كثيرة هي العلامات والإشارات الموحية التي نتجاهلها أثناء القراءة الأولى، ليس عن قصد بالطبع ولكن تشغلنا أثناء القراءة الأولى أشياء عن أشياء، وأنت تستمع إلى محدثك، قد تشغلك ربطة عنقه عن جزء من حديثه، وقد يشغلك ميل في ياقة قميصه عما يجول في عينيه من أسرار يريد إخفاءها عنك وهو يخاطبك، لذلك كان لابد من القراءة الثانية حيث يكون السامع أكثر تركيزا وانتباها. سؤال يتردد باستمرار مصحوبا بتقطيب الحاجبين دهشة واستغرابا، والسؤال هو: كيف تحول حال حبيبين من الشاعرية والدفء والحنان والهدايا المتبادلة إلى قاعات المحاكم وأقسام الشرطة؟.. إنها القراءة الثانية يا صديقي، القراءة التي تأتي بعد انتهاء مراسم الارتباط ومغادرة الضيوف وانتهاء التقاط صور الذكرى وإقفال الباب على اثنين بكل تناقضاتهما وأسرارهما وتكويناتهما النفسية التي لم تظهر في القراءة الأولى، تلك القراءة المتعجلة التي تهمل فسيفساء الشخصية المقابلة التي تبدع في إخفاء الحقائق وإبراز نقائضها. ربما حاول من معك مرة أخرى إيضاح بعض الأمور لك، لكنه لم يجد منك إصغاء يليق بما لديه من استعداد للبوح، ربما حاول ثانية، لكن انشغالاتك بأمور أخرى جعلته يتراجع، قد يشغلنا ما جعلناه أولوية اهتمامنا عن أمور أكثر أهمية منه وخطورة، تخيل زوجتك وهي تهم بإخبارك عن عارض صحي يقلقها، في حين أنت أمام مرآتك ترتدي ثيابك الجديدة بمناسبة ذهابك إلى حفلة تكريمك في العمل، صحيح أنك رأيتها مبتسمة، لكن ذلك في القراءة الأولى، لو عاودت النظر إليها ثانية ستكتشف في القراءة الثانية دمعة تحاول منعها من النزول. كم مرة جعلتك الأحداث تتمنى لو كنت لجأت إلى القراءة الثانية قبل اتخاذ القرار؟! في الوقت متسع للقراءة الثانية، لكننا نتسرع للوصول إلى ما صورته لنا القراءة الأولى على أنه الحقيقة، لو تصفحنا كتب التاريخ سنجد أن نجاح الخدع في الحروب يعتمد اعتمادا شبه كلي على أن الخصم سيكتفي بالقراءة الأولى ولن يحاول ممارسة القراءة الثانية، تماما كما فعل الإغريق بعد حصار طروادة أكثر من عشر سنوات، لم يقرأ الطرواديون هدية الإغريق لمدينتهم المتمثلة في الحصان الخشبي العملاق قراءة ثانية، بل اكتفوا بالقراءة الأولى التي رأوا من خلالها الجيش الإغريقي ينسحب منهيا حالة حصاره لمدينتهم المنيعة، وتاركا فوق ذلك هدية عبارة عن حصان خشبي ضخم، فاحتفل الطرواديون طوال الليل بعد إدخال الحصان الهدية، اكتفوا بالقراءة الأولى التي صورت لهم أن بالإمكان أن يتحول العدو الذي حاصرك سنوات ليقضي عليك، إلى صديق يترك لك هدية ويمضي بسلام، لكن حين ثمل أهل طروادة ابتهاجا وناموا، خرج لهم الجنود الإغريق من الحصان الهدية وفتحوا أبواب طروادة لجيش الإغريق الذي تظاهر بالانسحاب ليحتل طروادة وينهبها ويقتل كل رجالها ويسبي كل نسائها وأطفالها، كل ذلك تم لأن الطرواديين لم يقرؤوا الأمور قراءة ثانية. مازالت خدعة حصان طروادة تتكرر بأشكال مختلفة وصور شتى، لكن الفكرة الأساسية هي اعتماد الضحية على القراءة الأولى فقط، وهذا ما أنجح كل المؤامرات المحاكة في الظلام أو في النور على المستوى الجماعي أو المستوى الفردي، على المستوى السياسي أو المستوى العاطفي، على مستوى أمة أو مستوى عشيرة، حتى باتت المؤامرات توضع جهارا نهارا، لأن الاكتفاء بالقراءة الأولى يعمي العيون والقلوب عما كانت ستكشفه القراءة الثانية.. لو تمت.
copy short url   نسخ
30/03/2017
2896