+ A
A -
يقول المولى تعالى (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) إنها كلمة إلهية جامعة لشتى أنواع التواصل بين البشر: المعرفي والثقافي والإعلامي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والهوياتي وكافة العلاقات الإنسانية، بما فيها علاقات التصاهر والتزاوج والهجرة واللجوء. خلق الله عز وجل الجنس البشري والوجود كله، مختلفاً متنوعاً متعدداً، لحكمة عليا سامية (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم) أي من أجل أن يتواصلوا ويتنافسوا ويعمروا.
كما منح الأمم والشعوب والدول خصائص ومواهب وسمات مميزة، وثروات وموارد مقدرة، ليحتاج بعضهم بعضاً فيتعارفوا ويبنوا جسور التواصل والتفاهم والتعاون، ويتنافسوا في عمران الأرض وإثراء الحياة، وفي الارتقاء العلمي والمعرفي والتقني الخ...
الإرادة الإلهية اقتضت خلق العالم وفق هذا النظام البديع: التعددية الثقافية والدينية والعرقية واللغوية الثرية، لينفتح البشر بعضهم على بعض، ويتقبل بعضهم بعضا، ويفيد بعضهم من بعض عبر عمليات التفاعل الحضاري الخلاق، المؤسس لأرضية مشتركة من المصالح المتبادلة، والقيم الأخلاقية المحصنة من مشاعر التعصب والتطرف والكراهية والعدوانية.
إن من أهداف بناء جسور التواصل بين الشعوب، تحقيق فهم أفضل لبعضنا بعضاً، وتخفيف أسباب التوتر، وإزالة ما تراكم من سوء الفهم وسوء الظن، وتصحيح الصورة النمطية السلبية التي تحملها الشعوب لبعضها تجاه الآخر، إضافة إلى تحقيق المصالح المتبادلة، والتعاون المشترك في مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد الجنس البشري جميعاً، وهذا هو أصل فكرة «العولمة» التي تعني أن العالم أصبح متقارباً، يتأثر ببعض، داخلياً وخارجياً، بهدف توحيد الجهود الدولية لمعالجة القضايا المشتركة كوحدة واحدة، فالعولمة في أوسع دلالاتها، معنية بالانتقال السلس للبشر والسلع والمال والفكر والمعلومات عبر دول العالم ومجتمعاته من دون حواجز مانعة أو إجراءات حمائية معوقة، ولعل الحضارة المعاصرة لم تبتدع كما أبدعت في اكتشاف العولمة وترويجها.
من هنا، فإن الذين يسعون إلى هدم جسور التواصل، ليبنوا الجدران العازلة، هم دعاة هوية ضيقة، يقفون ضد طبيعة الحياة، ويناقضون منطق العصر، وروح الحضارة، ويخالفون الحكمة الإلهية التي اقتضت التواصل بين البشر، ويتناسون أن الحضارة المعاصرة، هي ثمرة الانفتاح على الآخر وثقافة التعددية.
أن هناك احتياجات متزايدة، ومصالح ملحة ومتبادلة، وهناك إرث ليبرالي إنساني حضاري تراكمي يجب الحفاظ عليه وتعزيزه ونقله إلى الأجيال القادمة، وكل ذلك لا يتحقق إلا بتعزيز جسور التواصل والتفاهم، وأما سياسة بناء الجدران والعودة إلى الحمائية فهي من أكبر مهددات ثقافة الانفتاح والتعاون والتسامح، والليبرالية.
من هم دعاة قطع الجسور وبناء الجدران؟
هناك اليوم 5 جهات، تعمل على هدم الجسور بين البشر، وتسعى لبناء الجدران الحاجزة بين الناس، وتتبنى نزعات الحمائية والانعزالية والانغلاق:
1 - الشعبويون الأميركيون المؤيدون للانعزالية وبناء الحواجز المانعة، وفِي هذا السياق يأتي قرار حظر السفر بأجهزة الحاسب الآلي المحمول والألواح الإلكترونية المحمولة على بعض شركات الطيران إلى الولايات المتحدة، قرار لا تفسير له إلا أنه يمثل حرباً تجارية موجهة للشركات الخليجية، هدفها حماية شركات الطيران الأميركية العاجزة عن المنافسة، كما يأتي الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الذي بدأت إرهاصات تفعيله، في السياق نفسه، لكن بريطانيا العظمى التي لم تكن الشمس تغرب عن مستعمراتها، ستدفع فاتورة باهظة تقدر بـ 60 مليار يورو ثمناً للطلاق من أوروبا!
2 - اليمين الأوروبي المتعصب والمعادي للآخر والمطالب ببناء جدران مانعة وعازلة، والساعي للخروج من الاتحاد الأوروبي بحجة أنه متسامح مع المهاجرين.
3 - التكفيريون، عندنا، الذين يتبنون خطاباً تحريضيا إقصائيا تجاه الآخر المختلف دينا أو مذهبا.
4 - التنظيمات الإرهابية التي تعيث في الأرض فساداً: تفجيراً وقتلاً وتدميراً وتخريباً لجسور التواصل.
5 - الدول المحكومة بأيدلوجيات منغلقة: دينية أو وضعية، مثل دولة الولي الفقيه وكوريا الشمالية وغيرهما.
أخيراً: إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، فعلينا العمل على تعزيزه وحمايته، وتربية النشء عليه.
copy short url   نسخ
27/03/2017
936