+ A
A -
بقلم: باسم توفيق
البعض يرى في قضية الفن رؤى مغايرة ومختلفة وقد نختلف وقد نتفق وهذا ما يعنيه الفن بكل جدية فليس من الضروري أن نتفق على بعض المضامين التي تعتبر قيما متغيرة ومتناسبة طرديا أو عكسيا مع كل عصر ومن ثم علينا التصديق دائما أن الفن ليس فقط هو ذلك الفعل الجمالي المقصود لذاته أو ليس هو تلك الفكرة التي تحوطها المتعة الذاتية للفنان بل هي بعض الأحيان أو عند بعض الفناين هي عمل يجب أن ينجز وهذا ما أدى لظهور الفن النوعي ذي الهدف الذي يخدم فكرة نوعية ما وهذا ما يعرف في الفن باسم – الفن المنجز لهدف تنفيذي– ودعنا نقول إننا لو قصرنا الفن على فكرة الفن ذاته هدفا في ذاته فإننا بذلك نفتئت على النسبة الأكبر من فكرة الفن وماهيته وأهدافه فلن نجد الفنان الذي يصمم وينفذ خلفيا المسرحيات أو اللوحات في الأماكن الدينية أو حتى أفيش السينما إيضا سوف ينفض الفنانون من حول فكرة الفن كقيمة فعلية فلن نجد هناك رسومات في الكتب أو على الحوائط أو أي رسومات لغرض حتى التجارة وهكذا تبقى هناك قيم عملية في الفن معطلة وغير مطروقة وينفض المتفرج عن الفن الذي لا يمثل قيمه عملية تضيف لها الفكرة والجمال بالإضافة للقيمة الوظيفية.
الحقيقة ان هناك فنانين كثيرين كانوا يحملون على عاتقهم هذه القيمة الوظيفية والتي تعبر عن أفضلية الفن وقدرته في حالة كونه وسيلة تحول الفكرة الفنية لشكل عملي مما لا يجعلها تخرج عن فكرة الفن وتدني بوق المتلقي.
فناننا اليوم هو أحد فناني فرنسا الذي قدم للفن التشكيلي قيمة وظيفية ونوعية كبيرة الفنان الكبير أوكتاف بنجويلي والذي رآى انه بدون أن يقدم شيئا خاصا للفن لخدمة فكرة ما فأنه سوف يكون فنه قاصرا لأن البعض يرى أن المثالية في الفن أي الفن لذاته تعتبر أحيانا فكرة بها الكثير من السذاجه وخصوصا في عصر كانت فيه كل العلوم تتطور والأفكار تتجه للعملية والمواءمه مع طفرة الثورة الصناعية والسياسية وخصوصا في النصف الأول من القرن الـ19 وحيث اتجهت فرنسا لفكرة الامبراطورية مرة أخرى بعد الثورة الفرنسية ثم أصبحت تتقلب سياسيا واجتماعيا وفكريا حتى أصبحت قلب أوروبا النابض بالفكر والثقافة، ومن ثم وجد بنجويلي أن الفن الذي لايخدم فكرة سياسية أو وطنية أو حتى علمية هو فن فارغ بلا هدف فاتجه بنجويلي ليدعم بفنه الفكر السياسي والتاريخي لفرنسا مما حدا به أن يخطو خطوة كبيرة تجاه الفن النوعي والوظيفي وشجعه على ذلك انه لم يكن فنانا يترك لنفسه العنان حتى يخرج بفنه للخيال استعراض الذات، ومع ذلك كان بنجويلي بفنه وأعماله من الفنانين النادرين الذين كانت لهم مدرسة خاصة وإطار مميز من المهارات الفنية سواء في اختيار الموضوعات أو في تقديم تقنيات جديدة حركت المياه الراكدة للفن في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
كان بنجويلي يراهن بفنه على فكرة أن الفن خلق ليدعم فكرة ما ومن ثم أصبحت أعمال بنجويلي كلها تسير في إطار فكرة عظم فرنسا تلك الفكرة التي كانت تدفع السياسة الفرنسية وتشكل أخيلة الفن في هذه المرحلة الحرجه وخصوصا بعد أن خذل التاريخ نابوليون وحطم حلمه في أن تكون هناك امبراطورية فرنسية تضم معظم أوروبا بجانب مستعمرات في كل أنحاء المعمورة وكان انكسار نابوليون قد ورد للفكر الفرنسي بعض المشاعر الانهزامية ومن ثم هب الكثير من الفنانين أمثال أوكتاف بنجويلي ليضعوا فنهم في خدمة الفكر الفرنسي ومن ثم أعادت للأذهان صورة فرنسا العظيمة عسكريا والتي لا تنكسر مهما كان الأمر.
كان بنجويلي من الفنانين الذين أوكل إليهم موقع مهني وظيفي دعم فنهم ثم دعم هو بفنه موقعه الوظيفي حيث تم تعيينه أمينا عاما للمتحف العسكري الذي كان يعتبر أرشيفا للعسكرية الفنية آنذاك والتي تمثل ببساطة سطوة فرنسا وصورتها كقوة ضاربة لها وزنها في أوروبا والعالم، كان بنجويلي قد قضى فترة في الخدمة العسكرية بعد أن درس الفن وهذه الفترة لم تقتل فيه الفنان كما عند بعض الفنانين الذين قتلت داخلهم العسكرة روح الفنان بل على العكس لقد وجهت هذه الفترة فن بنجويلي توجيها نوعيا وخلقت في مخيلته فكرة تسجيل أمجاد فرنسا الحربية بالفن وهذا بالتحديد ما كان يحتاجه المتحف العسكري الذي كان قد أنشئ في وقت لاحق ليضم السجلات العسكرية وبعض نماذج من الأسلحة ومكتبة كبيرة بها مؤلفات عن تاريخ الحروب الفرنسية والعسكرية الفرنسية وسجلات أخرى تخص التاريخ العسكري، لكن بنجويلي أدخل للمتحف جزءا آخر وهو عدة قاعات تضم لوحات وأعمالا فنية تسجل المعارك الفرنسية العظيمة التي وضعت فرنسا منذ العصور الوسطى على خريطة التاريخ الأوروبي لذلك ليس من الغريب أن يرتبط أوكتاف بنجويلي بأشهر اللوحات الحربية في المتحف العسكري وهي لوحة معركة ترنتي أحد أشهر المعارك الفرنسية في العصور الوسطى والتي تسجل انتصار الفرنسيين على أعدائهم من القوات المعادية.
تعتبر لوحة معركة ترنتي إحدى اهم اللوحات التي تسجل تاريخ معركة كبيرة ويعود ذلك للتقنيات التي استخدمها بنجويلي ولم يسبقه إليها فنانو هذه الفترة، أولى هذه التقنيات هي فكرة الاتجاه الذي سجل منه بنجويلي اللقطة الحركية للمعركة فلقد صور ما يعرف بفلول المعركة أو نهايتها فلم يسجل بنجويلي فورة المعركة بل صور لنا اللحظة التي يعرف فيها الجنود الفرنسيون أنهم باتجاه اكمال النصر على عدوهم ومن ثم يكون الفعل الحركي داخل اللوحة هو انفراد الجنود الفرنسيين ببقايا المنهزمين من جيش الأعداء فنلاحظ ان الجنود الفرنسيين يجهزون على الجنود المدحورين الذين لا يبدون أي مقاومة تذكر وخصوصا في مقدمة الحشد داخل اللوحة وكأن الجيش الفرنسي يقوم بتدعيم نصره بإنجاز أخير وجنود العدو في شبه استسلام أمام القوات الفرنسية.
يركز بنجويلي في لوحته معركة ترنتي على الدقة في ملابس الجنود وأنواع السلاح المستخدم مما يشي بأن بنجويلي كان في هذه الفترة يخطط لإنشاء جزء من المتحف ضم الملابس العسكرية وهذا ما أنجزه بعد تاريخ اللوحة بوقت قصير أي في خمسينيات القرن التاسع عشر، خالف بنجويلي في لوحته التقليد المتبع لرسم اللوحات التي تصور معارك عسكرية حيث خالف فكرة المواجهة والاصطفاف التي كانت تسيطر على لوحات المعارك منذ عصر النهضة فلا تصطف عظم القوات في تراتبية كما هو متبع كذلك لا توجد مواجهة بين الجيشين في اللوحة بل مجرد انقضاض للجيش الفرنسي في شبه عشوائية.
عرف أوكتاف بنجويلي بفكرة أخرى في الفن التشكيلي نسبت إليه حيث يطلق عليه فنان الصخور لأنه كان مغرما بتصوير الصخور التي تقف شامخة سواء في البحر أو على الشاطئ والتي أحيانا كانت هي البطل الوحيد للوحة، فترك لنا بنجويلي اكثر من 14 لوحة موضوعها الصخور والتي كان أشهرها لوحة صخرة بريتاني الشهيرة والتي يعرفها كل فناني فرنسا بل وكل الفرنسيين في هذه الفترة وهي تصور صخرة شامخة على الشاطئ مع أسراب النوارس التي بدأت تحط للتو على رمال الشاطئ وعلى صخور أخرى أقل حجما، ولن يتخيل القارئ كيف اشتهرت هذه اللوحة شهرة طبقت الآفاق في كل أوروبا وأصبحت تمثل رمزا للرومانسية فتناوب على وصفها شعراء كبار في أعمالهم مثل شارل بودلير مما كفل لبنجويلي شهرة فوق شهرته وأصبح يمثل للكثير من فناني فرنسا مثالا على فنان المشاهد الطبيعية وكما مازال يعرف في كتب تاريخ الفن على أنه فنان تخصص في المشاهد الطبيعية.
كانت لوحات بنجويلي الأخرى تمثل عبقريته كما كانت تمثل الاتجاهات الفنية في عصره بشكل كبير على الرغم من تفرده فنجد أن بعض لوحاته تحمل بعض خطوط فناني الاستشراق وخصوصا لوحة الرعاة الشهيرة والتي تتشابه كثيرا مع لوحة القافلة التي رسمها أحد عتاة المستشرقين، فنجد لوحة الرعاة الجو الطبيعي فيها هو الصحراء والطبيعة الجافة مع وجود اثنين من الرعاة سود البشرة مما يذكرنا بشخصية العبيد في لوحات المستشرقين.
قام بنجويلي بأعمال نوعية كثيرة فنفذ الرسومات للكتب والكاتالوجات للمتحف العسكري التي كانت تصور أنواع السلاح والملابس وغيرها من أدوات الحرب كما نفذ الكثير من رسومات الكتب لمشاهر الكتاب في هذه الفترة مما يضيف لمهامه الفنية مهمة أخرى وهو أنه كان فنان رسوم توضيحية متمكنا ونستطيع أن نستشف ذلك من شهرته الكبيرة بين رواد هذا المجال.
هناك لوحات كثيرة لبنجويلي تتبع المدرسة الرومانسية الجديدة على الرغم من أنه يصنف كفنان أكاديمي، لكن معظم هذه اللوحات فقدت وتاهت لأنه لم يكن يمهرها بإمضائه وبعض الفنانين المغمورين أعادوا إمضاءها ونسبوها لأنفسهم مثل لوحة الجنود الذين يبدو أنهم قبضوا على متمردين في إحدى القرى ويسيرون معهم والناس والأطفال يطالعونهم وهذه اللوحة بالتحديد على الرغم من أنها موقعة باسم فنان مغمور إلا أنه ثبت نسبها لأوكتاف بنجويلي بشكل قاطع.
ولد أوكتاف بنجويلي لايرون في مقاطعة بلبين بمقاطعة بريتاني في ابريل عام 1811 ودرس الفن بشكل أكاديمي ثم التحق بالجيش الفرنسي وقضى فترة لابأس بها مما أهله ان يحصل على منصب أمين المتحف العسكري بباريس وشغل تطوير المتحف جزءا كبيرا من فكره ووقته حتى أن شهرته في الأعمال الفنية العسكرية غطت على شهرته كفنان أكاديمي له صولات وجولات في علم الفن وكان يطلق عليه فنان الصخور لما اشتهر عنه انه كان مغرما بتصوير الصخور في أعماله.
مات أوكتاف بنجويلي في عام 1872 في ظروف غير معروفة حيث أعلن موته بعد ان مات بفترة كبيرة.
copy short url   نسخ
27/03/2017
1019