+ A
A -
- أدي ولد آدب
الشعر «ديوان العرب»، هذه المقولة، كان عبد الله بن عباس، هو أول من قالها، وهي على اختصارها تختزل حروفها القليلة كثيرا من الدلالات المنطوقة والمفهومة، حيث نزعت كلمة «الديوان» من سياقها الإداري التنظيمي، عند حضارات الفرس وغيرها، إذ كانت تعني سجل أسماء الموظفين، ومستودع مسمياتهم الوظيفية، ومقادير رواتبهم، وحتى بناية الإمارة نفسها... ثم تحولت عند العرب من لغة الإدارة البشرية، والنُّظُم النثرية، إلى لغة الشعر، وتنظيم العواطف والمشاعر، ومستودع القيم، والمآثر، وحتى الوقائع، والملاحم..... ومادام ابن عباس هو «حبر الأمة»، و»ترجمان القرآن»، فإن وسمه للشعر بهذا الوصف يعتبر انتصارا له، وتشريعا لاستمرار سلطته، ورمزيته الطاغية في وجدان أمة العرب، مقابل زحف «النسك الأعجمي» الذي يريد بحدية فهمه الضيق للدين الجديد أن يجعل الشعر مدنسا، منبوذا، من رحاب الدين المقدس، فعندما قيل له: إن بعض المتدينين يتحرجون- تعبديا- من تعاطي الشعر، أجابهم- قوليا- بأن هؤلاء «نسكوا نسكا أعجميا»، وكان يتعاطاه-فعليا- داخل المسجد، وفي تفسير القرآن الأقدس، وهكذا أصبح «الديوان» إذا ذكر- في ثقافتنا- لا يكاد يحيل إلا على الشعر، لا سيما إذا قرن باسم العرب.
وفي العصر الحديث... حاولت ذراري «النسك الأعجمي»، أن يعيدوا- مجددا- محاولة نزع صفة «ديوان العرب» عن الشعر الأصيل، ليمنحوا شرفها للسرد الدخيل، فأصبحوا يروِّجون أن «الرواية ديوان العرب»، نظرا لانتعاش سوقها الملحوظ، في الأدب العربي الراهن.
بيد أن الجدل المحتدم بين الرواية والشعر خصام مفتعل، يستعر بين سدنة كل من الفنين أكثر منه بين الشعر والرواية في ذاتيهما؛ لأن كلا من الفنين يؤمن بالتعايش أكثر من الإقصائية الإيديولوجية المتحكمة في أرواح الأنانيين، فهما معا يعتبران فنين أصيلين في وجدان الإنسان، وفي صميم الحياة، ولكل منهما مناخه ومجاله نفسيا واجتماعيا، فالشعر يكون أنسب للتعبير هنا، والرواية أليق بالتعبير هناك.
مع أن هذا لا ينفي كون أحدهما أكثر هيمنة على وجدان أمة ومزاجها، مقارنة مع غيرها، أو كونه أكثر حضورا في ظرف ما، تبعا لمؤثرات السياقات التاريخية الكبرى.
وإذا كان هذا الخصام المفتعل ظل مستعرا-وربما سيبقى- فإن ما يجب استكناهه-بعمق- هو مدى التراسل والتفاعل القائم يبين الفنين، إذ لم يعد خافيا-في ظل العولمة-ما يرشح إلى الرواية من شعرية، وما يندس في الشعر من تقنيات السرد.
وهنا يبدو الفنَّانِ كما لوكانا قد اصطلحا-ربما- من وراء ظهور المتخاصمين باسميهما، مما يعني إفراغ هذا الجدل من معناه.
و في سياق آخر عندما تمرد الشعر على البلاطات، أرادت سياسات الدول العربية، أن تفتعل صراعا بين العلوم السياسية، والعلوم البحتة، منحازة- شكليا فقط- للأخيرة، انتصارا لــ «العلوم
الحيوانية»، حيث لا توجد- في نظري- علوم غير «إنسانية»، إلا إذا كانت من ابتكار «الحيوانات» أو «الجِنِّ»... وإن «العلوم الطبيعية»- كما تسمَّى تجوُّزا- لتفقد كل قيمتها، عندما تفقد» إنسانيتها»، زدْ على كل ذلك أن الدول الغربية الأرقى في نظركم، لا تفتخر بعباقرة علومها الفيزيائية، والكيميائية.... الموسومة بـ «الطبيعية»، وإنما تزهو وتتيه بشعرائها، وأدبائها، وفلاسفتها...، وتختزل كل هويتها في التماهي بهؤلاء، فلغة الشعب الفرنسي، تسمى «لغة موليير»، والشعب الإنجليزي، يسمي لغته« لغة شكسيبر»، و«سرفانتس» هو رمز الثقافة الإسبانية....
وعلى ضوء هذا كله، نستبشر خيرا بافتتاح« ديوان العرب» مؤخرا في قطر، راجين أن يعيد الاعتبار للشعر العربي الجميل، ويحرك سواكن ساحته، وأن يستقطب ويستوعب الشعراء، المجيدين، وأن يعتبر الجودة فقط هي معيار كسبه، ومرتكز استثماره، بعيدا عن الشللية وأخواتها...التي تفتك بمشاريع الثقافة والأدب، عبر العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
copy short url   نسخ
27/03/2017
1716