+ A
A -
بقلم- باسم توفيق
نحن لم نعتد كثيراً أن نرى مثقفين من العامة والغوغاء.. هكذا كان رد أحد أعضاء السيناتوس الروماني حينما شرع أحد العامة في إلقاء قصيدة يتحسر فيها على أيام الجمهورية وكان ذلك في عهد الإمبراطور تيبريوس، أي منذ ما يقرب من 2000 عام ومرت هذه القرون ولازالت هي نفس الأزمة،أزمة وجود الثقافة كمنتج متداول بين الطبقات العامة، أي بلغة العصر بين السواد الأعظم، فنحن نعرف دائماً أن المنتج الثقافي، خصوصاً ذلك الإبداع القائم على فكر عميق وتعلُم قوي نعرف أنه غير مؤهل للاستهلاك بين الطبقات الدنيا..
وهذه لب الأزمة في الترويج الفكري وهي أن المنتج الثقافي تنتجه الطبقة المتعلمة والمثقفة لنفس الطبقة، فتجد الشعر والفن التشكيلي يخاطب أقران الفنان ويحاول المبدع فرد عضلاته الفكرية والنوعية التي تثبت للجميع أنه عالمي، وأنه لا يقل عن العباقرة من أبناء فنه، والحقيقة أننا في الوطن العربي للأسف نعيش هذا المناخ الثقافي المفعم بالانعزالية، ففي أسبوع واحد العام الماضي طفت أكثر من 10 معارض للفن التشكيلي وكانت الحقيقة مزدحمه.. لكنني لم ألتق هناك المتلقي.. بل كنت ألتقي الفنانين أنفسهم في دورات لا نهائية من رد الزيارات والمجاملات المتبادلة وبعض التعبيرات العصرية مثل السليفي على السوشيال ميديا.. مع كلمتين من نوع المجاملة كنت في معرض الفنان الكبير والزميل فلان.. لكنني ظللت أتساءل.. أين الجمهور؟ أين المتلقي؟ لماذا لا يجذب فنكم الحداثي والأكاديمي والنوعي والانتقائي.. وقل كما تشاء تعظيماً وتبجيلاً.. لماذا لا يجذب رجل الشارع العادي؟ لماذا لا نجد سائق التاكسي وطالب المدرسة وبائع السوبرماركت في هذا الحدث الثقافي والإبداعي الذي من المفترض أنه يخاطب الكل دون تمييز.. وحينما تدقق في اللوحات أو تسمع القصائد والندوات نبحث فيها عن رسالة لرجل الشارع العادي.. للعامة.. للشباب الذين لا يعرفون وأرهول ودادا وكاندينسكي.. والذين لم يقرأوا تيد هيوز واليوت وهربرت.. الحقيقة لم نجد هذه الرسائل– إلا فيما ندر– كان الفن والأبداع لا يعبر عن غير الفنانين أنفسهم في انعزالية وتعالي وربما تهميش غير مقصود للعامة وكأنهم في اللوكيوم الأرسطي ومكتوب على الباب– من لم يكن بيكاسو فلا يدخل علينا– وعلينا أن نتساءل ما هو ذنب المتذوق العادي البسيط الذي يحلم أن ترتقي به، كما يأخذ الكبير بأيدي الطفل ويصعد به درجات السلم.. ما هو ذنبه أنك تحب أن توصل رسالة لطبقتك من الفنانين والمبدعين أنك رمزي أو سريالي أو تجريدي.. هو يبحث عن نفسه داخل عملك أنت هو يبحث عن ذاته وتاريخه وحلمه.. كذلك الكتاب الذين يكتبون أعمالهم الإبداعية من بطون المعاجم، فيستخدمون محاريب أبولو ويصلون لكاليوبي وآراتو.. من أين للقارئ العادي أن يعرف الموساي أو ربات الفنون..
الحقيقة أن الانعزالية والذاتية وربما التعالي غير المقصود من فنانين عصرنا الأجلاء هو السبب في نأي الكثيرين من العامة عن تعاطي الفن كحالة ترفيهية مثمرة، كما كان في ستينيات القرن الماضي مثلاً وقبلها منذ مطلع القرن العشرين حينما كان القارئ ينتظر القصة الجديدة لإحسان عبدالقدوس أو نجيب محفوظ أو رسمه لبيكار في الأخبار أو لجاهين مشفوعة بأبيات عامية تفوق الفصحى في الرقي والحكمة، لن نقول كما يتذرع البعض أن السبب هو فساد الذوق العام لكن السبب هو فشل المبدع في الارتقاء بالعامة والخروج بهم لعوالمه الإبداعية التي تشابه عوالمهم ولا أبلغ مثلاً من أن العامة بل والأميين كانوا يتذوقون قصائد رامي وعمر الخيام وأبوفراس الحمداني من صوت أم كلثوم بل كانت أغاني أم كلثوم درساً بليغاً علم البسطاء والأميين الفصحى والغزل ورهافة الحس والمضمون دون أن يذهبوا للدراسة في المدارس أو الأكاديميات، ولأن أم كلثوم كانت تأخذهم في صوتها لعوالمهم هم ولأحلامهم دون أن تستعرض علمها بموسيقى الجاز أو الكانتاتا والأوفرتير، أيضاً كانت مسارح الريحاني والمهندس وغيرهم مزدحمة وأغلب جمهورها من العامة والذين لم يدرسوا شكسبير أو يطالعوا برخت لكنهم أحبوا المسرح لأن المهندس ومدبولي قدم لهم برنارد شو في ردائهم هم.. دسه بين أحلامهم وأقحمه في مشكلاتهم، كما قدم لهم من قبل وهبي والريحاني مولير في تبسيط وفي ثوب مصري وعربي أصيل.
ولعل انعزالية الطبقة المبدعة من خلال تقديم رؤاهم النوعية في الفن هي أحد أسباب التحول الذي فتح الطريق لكل غث أن ينتشر بين العامة، بل هم السبب الرئيسي في أن يفسد الذوق العالم لجيل كامل فمن لا يجذبه الفن الراقي يفسح عقلة للادعاء ومن ثم يرى في شخصية البلطجي أسطورة ويحلم أن يصبح مهرب سلاح ويصبح مثله الأعلى المجرم الذي ينقل الممنوعات ويكون ثروه.. ويحضرنا هنا مقولة للناقد الإنجليزي وليم سكاميل حينما قال لقراءه في جريدة الإندبندت البريطانية: من لا يجذبه مسرح لندن مضطر للذهاب لحفلات الأستربتيز.. وكان سكاميل يعتب على المبدعين المسرحين حالة الجمود التي انتابت المسرح الإنجليزي في ثمانينات القرن العشرين، وحينما دخل عميد الكاريكاتير الإنجليزي رونالد سيرلي أحد معارض فنان من هؤلاء الذين يتحججون بإفراز الحداثة ووجد مجموعة من اللوحات بلا أي ملامح قال مازحا: لعلك نسيت أن تحضر اللوحات.. علينا أن ننتظر حتى غد.
وربما أيضاً لا نلقي بالعتب كاملاً على انعزالية الفنانين وطموحهم في العالمية التي يفهمها الكثير بشكل خاطئ، لكن أيضاً هناك جانب خفي من المشكلة وهو القطاع الحكومي الذي يمثله وزارات الثقافة وقطاعاتها والتي لا تعمل باستراتيجيات حداثية وعلى أسس علمية ناجحة، بل على العكس تهدر هذه القطاعات في وطننا العربي الملايين وربما عشرات الملايين في اللاشيء بل على العكس فهي تنفر المواطن من الثقافة والفن بأسلوبها الخاطئ والسبب في ذلك هو قلة المعرفة بسبل التسويق التي تتلاءم والمنتج الثقافي، فالبعض يعتقد أن الثقافة ليست منتجاً ومن ثم لا حاجه بها لمناهج التسويق وهذا الكلام خاطئ بنسبة مائه بالمائة، لأن المنتج الثقافي هو منتج نوعي أكثر جدية من المنتج التجاري ويحتاج لمنهج حقيقي ونوعي لتسويقه وفي وطننا العربي التسويق مرتبط بالتجارة فقط وهذا خطأ، إذن يعود الفشل في التواصل بين المتلقي والمادة الثقافية بنسبة كبيرة للمؤسسات التي مازالت تعمل بفكر سبعون عاما مضت أيام كان المنتج الثقافي هو الكتاب والعرض المسرحي واللوحة فقط، لكن هذه الأيام هناك الطفرة المخيفة في عالم الميديا والاتصال ومن ثم يجب أن تتواكب معها أساليب طرح وتسويق هذا المنتج لأن التكنولوجيا التي يعيشها العالم جعلت من الصعب أن يلتفت القارئ المبتدئ لكتاب ويتجاهل برنامج كومبيوتر أو لعبة على تليفون جوال.
الحقيقة أننا جميعاً بحاجة لإعادة النظر في إستراتيجية التعاطي مع المنتج الثقافي أولا من حيث التوجيه لأننا جميعاً في منازلنا نعاني خللاً كبيراً في توجيه الأطفال والشباب تجاه الفن والثقافة لسببين أولهما وجود الأشكال الأكثر ترفيهاً من الترفيه الموجود داخل المنتج الثقافي ومن ثم علينا أن نتحكم في تعاطي النشأ مع المادة التكنولوجية الترفيهية ونقننها ونقدم بدلا منها مادة ثقافية من خلال أطار ممتع ومفهوم ولن يتأتى ذلك دون فهم المبدعين أنفسهم أو فهم المؤسسات الحكومية والمستقلة المسؤولة، لذا علينا أن نؤكد أن حل هذه الأزمة مشترك بين عدة جهات تبدأ من المبدع وتمر بالعمل المؤسسي وتقوم الأسرة بأكملها.
الحقيقة أن رجل الشارع العادي عليه أن يجد ما يألفه في الإبداع حتى يستطيع أن يتعايش معه ولا نقصد هنا بالطبع تقديم فن من نوعية الفن الفارغ حتى تتناسب والمتلقي لكن المقصود هنا أن تطوع القالب الذي تعمل عليه كمبدع ليصبح أكثر ليونةً ووضوحاً وبمعنى أدق كلما كان الإبداع بسيطاً.. كان أكثر انتشاراً.. البساطة لا تعني التفاهة والهبوط بالمضمون، لكنها تعني النزول بعبقرية لمستوى المتلقي العادي حتى يشترك في حلقة الإبداع، وهذا أيضاً أفضل للمبدع لأنه يوسع من دائرة جمهوره وشعبيته.
إشكالية انعزال المبدع وشعوره الدائم بأنه يبدع لطبقة معينة تضم الصفوة.. إشكالية حطمت مجتمعات وهمشت الفن ذاته لعصور متعاقبة ومنعته أن يكون أحد الأدوات المثلى للارتقاء بالعامة كوسيلة للتطوير العقلي والفكري والحسي من خلال مضمون ترفيهي حيث كان يقول كاليماخوس أيقونة الشعر السكندري وأمين مكتبة الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد: نحن نكتب الشعر لأنفسنا ونصفق لأنفسنا ونحرم راكوتيس أن تحلم على مثاليته.. وراكوتيس ترقص كلها ليلاً على الغث من الغناء.
copy short url   نسخ
23/03/2017
1903