+ A
A -
- عبدالسلام جادالله
حين تسمع جدلا بين اثنين تأكد بأن كلا منهما غير ملم بموضوع الجدل، وتأكد أيضا أنهما من العالم الثالث، وتأكد كذلك أنهما موظفان حكوميان أحدهما متقاعد والآخر على شفير التقاعد، وتأكد يا صديقي أن كلا منهما لديه أزمات منزلية مستعصية وزوجة حنانة زنانة، وأن أولاده غير متعاونين البتة ومعظمهم عاطل عن العمل ويحبون مباريات الكرة والتدخين، تلك هي الصورة التي تتكون لدي حين أسمع جدلا بين اثنين كل منهما يريد إسكات الآخر لدرجة الخرس.

والآن أحاول شرح أسباب ما وصلت إليه من قناعات حين سمعت الجدل سالف الذكر، فمثلا حكمت أنهما غير ملمين بموضوع النقاش لأن صوتيهما مرتفعان، وارتفاع الصوت يكون حين تكون الحجة ضعيفة، وحكمت أنهما من العالم الثالث لأنني عرفت اللغة التي يتكلمانها وهي العربية، إذن هما من بلادنا العربية، وبلادنا العربية مصنفة على أنها من العالم الثالث، وهذا العالم مبتلى بأشياء كثيرة منها أنه مبني على العشوائية في كل شيء، وعلى الواسطة والمحسوبية في كل شيء، وعلى قمع الآخر وإسكاته بكل الأشكال، وعلى الفساد الإداري والغباء العاطفي، وكل ذلك يجعل من أي جدل بين اثنين سرعان ما يتحول إلى معركة داحسية عن جدارة.

ما كيف عرفت أنهما موظفان حكوميان فالمسألة سهلة، لأن أصحاب الأعمال الحرة مشغولون بأعمالهم وليس لديهم الوقت الكافي ولا المزاج للجدل، إضافة إلى أن الموظف الحكومي في بلادنا العربية يتأسس نفسيا من خلال اللوائح المبنية على البيروقراطية المبهرة بالروتين ومن خلال مزاجية رؤسائه على الطاعة التامة والتنفيذ دون اعتراض أو تساؤلات، ليصبح مع مرور الزمن قنبلة صوتية جاهزة للانفجار في لحظات الجدل.

كما أنني عرفت من خلال جدالهما أن أحدهما متقاعد والآخر سيتقاعد، وهذا يغذي العدائية في الجدل، لأن الذي لم يتقاعد بعد، يتباهى بشكل غير مباشر بأن سنه أصغر من الآخر، وهذا يثير في الآخر ردا انتقاميا غير مباشر مفاده أنني أكثر منك خبرة ومعرفة، وهذا يفجر طاقة مكبوتة على مر الزمن تكونت على صورتين، الأولى كبت وظيفي ومعاش عاجز عن تلبية الاحتياجات فكيف بتحقيق الأحلام، والثانية كبت منزلي زرعته في مفاصله زوجة تعتبر السكوت عيبا، وعدم محاولة زوجها إيجاد عمل إضافي يزيد المدخول مثل زوج جارتها عارا يجب غسله بالحن والزن والكلام ذي المعنيين.

نأتي إلى الأبناء الأعزاء، فقد انقضى العمر في تربيتهم وتعليمهم ومذاكرتهم ودفع رسوم دون معرفة الأسباب، وأحلام وردية تتوقع لهم زمنا أجمل ومستقبلا أكثر إشراقا، لكنه بعد تخرج الأبناء يكتشف أن المشاكل بدأت من حيث البحث عن وظائف تليق بالأبناء الذين يحملون شهادات جامعية لا تقبلها جهات التوظيف دون خبرة، وما دامت الخبرة غير موجودة، فليس أمام الخريج إلا أن يبحث عن واسطة قوية تكسر جدران الممانعات، أو الجلوس في المقهى المجاور بانتظار أن يأتي الحل من غامض علم الغيب، ولأن الواسطات هي عبارة عن منافع متبادلة كما أكد ذلك أستاذ دمار المجتمعات وهو الفساد، إذن لن تجد واسطة قوية دون أن تقدم لها منفعة قوية، لذلك تنحصر الواسطات بين أهل النفوذ الذين هم ليسوا بحاجة إلى الواسطات أساسا.

أما الغباء العاطفي فحدث ولا حرج، الحب مع أنه عاطفة نبيلة إلا أننا حولناه إلى عتاب دائم ولوم لا ينتهي، المحبوب عندنا دائما ظالم، عديم الشعور، غدار، قاس، إلى آخر لائحة الاتهام التي تداولها كتاب الأغاني وترسخت عبر حناجر المغنين والمغنيات، والمتجادلان ضحيتان من ضحايا الغباء العاطفي.. هل عرفت يا صديقي معنى جدل عندنا؟!.
copy short url   نسخ
23/03/2017
1537